الحرب التي لم يخضها الأمير حبيب الله، خاضها بطريقته الغازي أمان الله. وفي الوقت الذي كانت قوات الإنجليز تتردد فيه بين الهند وإيران، أرسل أمان الله رسالة عام 1905 للإنجليز لإعادة النظر حيال اتفاقية ثنائية، إلا أنه لم يرقب استجابة الإنجليز وأعلن الاستقلال.
إذا أجرى القراء مقارنة بين قوات الأفغان وقوات الإنجليز فسيجد أن الأفغان لم يملكوا شيئا سوى شجاعتهم، ذلك أن قوات الإنجليز هزمت الألمان والنمساويين والعثمانيين الأتراك، فكيف حاربهم المقاتلون الأفغان؟ إنه أمر مثير للاستغراب.
هذه الحرب غير قابلة للمقارنة بكل المقاييس. عدد قوات الإنجليز والهنود كان أكثر بشكل مضاعف، وكانوا يملكون جيوشا منظمة ومدربة وكانوا على مستوى عالي من المعدات والمستلزمات، أما القوات الأفغانية فلم يزد عددها على 60 ألف وكانوا غير منظمين ولم يملكوا عتادا وسلاحا قويا، مع ضعف شديد في حيازة المستلزمات والطعام، ومن هذه النواحي لم يكونوا على مستوى مواجهة الإنجليز. لم تكن هذه هي الحرب الوحيدة التي كان الأفغان فيها فارغي اليد من العتاد، بل الحرب الأولى والثانية مع الإنجليز كانت بهذا الشكل أيضا، وقد كبّد الأفغان الإنجليز أكبر الخسائر في هذه الحروب. بإمكانكم السير عبر التاريخ في طريق بولانه إلى كابل لإلقاء نظرة على مقابر الإنجليز الجماعية، والمحاصرة التي طوقت المعتدين في كابل، وقد حصل كل ذلك بعلو همة الشعب الأفغاني، ولم تقم أي دولة في العالم بتمويل هؤلاء المحاربين أو دعمهم. هذا هو تاريخنا الذي تكرر ومازال يتكرر، ويظهر لنا كيف استطاع الأفغان الإطاحة بأعدائهم بأياديهم العارية
الإنجازات الكبيرة للغازي أمان الله
أكبر إنجاز حققه الغازي أمان الله هو استقلال البلد، فنعمة الحرية وقيمته تعلو على كل القيم ولا شيء يوازيها.
كان للغازي أمان الله إنجازات عديدة في ميادين التجارة والاقتصاد والتعليم والثقافة والإدارة والجيش والقوات الجوية والطرق وإنشاء المدن. وقد كان يحلم برُقيّ أفغانستان وتطورها، وما قام به في سبيل تحقيق حلمه ليس له نظير في تاريخ أفغانستان.
في المجال الاقتصادي تم العمل على إنشاء الشركات والمصانع وإحداث سكة الحديد للوصل بين شمال البلاد وجنوبها، كما تم إنشاء محطات توليد الطاقة الكهربائية وتم إمداد المصانع بالطاقة، وتم إنشاء عدد من السدود منها سد غازي وسد سراج بمدينة غزنة. وتم إنشاء مصنع لترميم الطائرات ومصنع لترميم السيارات ومصنع نسيج، كما تم إمداد أسلاك الهاتف والتليجرام للوصل بين العاصمة والمحافظات.
في المجال التعليمي تم استقدام مدرسين فرنسيين وألمانيين للتدريس في مدارس (حبيبية) و (أماني) ، وتم إنشاء 322 مدرسة في جميع أفغانستان، وبلغ عدد الطلاب حتى عام 1927م نحو 51 ألف طالب وطالبة. كما كان يدرس في المدارس الحرفية 3000 طالب. وقد تم ابتعاث عدد من الطلاب للدراسة في تركيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا. الميزانية التي خُصصت للمعارف كانت ثالث أكبر ميزانية بعد ميزانية وزارة الدفاع وميزانية القصر الملكي. كما تم تأسيس كلية الطب وأُنشئت مكتبة كبيرة في العاصمة.في المجال الثقافي نشطت 13 جريدة، منها جريدة إرشاد النسوان، والاتحاد المشرقي، وجريدة الأفغان اليومية، ومجلة التعليم والتربية، وجريدة أمان أفغان الأسبوعية، ومجلة الجيش، ومجلة اتفاق إسلام، وجريدة الاتحاد، وجريدة الإبلاغ وجريدة الحقيقة للإعلانات.كما تم نشر مجلة أنيس الأسبوعية وكان على رأسها غلام محيي الدين أنيس، ومجلة نيسم سحر برئاسة أحمد راتب خان، ومجلة نوروز التي كانت تُنشر كل أسبوعين وكان يرأسها ميرزا محمد نوروز.في فترة حكم أمان الله تم إنشاء الإذاعة لأول مرة وبدأ العمل في السينما، كما تم إرسال المرحوم (غلام محمد خان ميمنه جي) إلى ألمانيا وبعودته تم افتتاح مدرسة الرسم، والتي احتلت مكانة فنية في البلد.في فترة حكم الغازي أمان الله تم تدوين الدستور باسم (نظام نامه)، وتم تشكيل مجلس الشورى الأعلى، ومجلس الشورى الخاص والذي يعمل عمل البرلمان، وتم من خلاله اعتماد وتصويب العديد من القوانين.كانت لدى أفغانستان في فترة حكم أمان الله 11 طائرة، وتم ابتعاث 65 طالبا إلى تركيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا لتعلم الطيران، كما تم تأسيس المصنع الحربي وتم استيراد مدافع حربية ومدرعات عسكرية من الخارج.وتم إنشاء الطريق بين سالنج وبكتيا وبدأ العمل على الطرق الأخرى. تم إنشاء قصر دار الأمان وتم إنشاء مستشفيات عسكرية ومدنية، وتم استيراد ماكينات فحص أشعة X، كما تم إنشاء مصحات عقلية ودور رعاية الأيتام.
المراسيم الذوقية
أول خطأ كبير وقع فيه الغازي أمان الله هو سفره للخارج لمدة ستة أشهر، وقد مهد هذا السفر التآمر ضده من قبل أعدائه في أفغانستان كما تأثر الغازي بتقاليد أوروبا وثقافتها، وعندما أحضر معه هذه الصورة الثقافية برزت ردود أفعال مضادة لأفكاره. الخطأ الثاني هو اصطدامه مع تقاليد الشعب الأفغاني وسننه. تخليوا أن يقف شرطي في عام 2019م في مدينة كابل وينزع خمار النساء جبرا، كيف ستكون ردود الأفعال تجاهه؟ بإمكانكم الآن أن تخمنوا ردود أفعال الطبقة الدينية والفئات الشعبية في عام 1928م. قام الغازي أمان الله خان بإلقاء خمار زوجته في بغمان وطلب من الشعب أن يُخلصوا نساءهم من قيد الحجاب. وكان في ذلك مصادمة شديدة لتقاليد وسنن البلد. في المجالس الكبيرة تم إجبار الشعب على لبس البناطيل وارتداء القبعات والإمساك بالعصا، كما تم إرشاد الشعب إلى إنزال القبعة عند التحية بدلا عن السلام. في حين أن البلد في تلك الفترة لم يكن بها عدد كافٍ من البناطيل والقبعات، لذا أنتجت هذه المراسيم نتائج سلبية. بدل الأمير أمان الله العطلة من يوم الجمعة إلى يوم الخميس، واشتُهر بين الناس بمحاربته لرموز الدين. كما منع التزوج بأربعة نساء، وقد أثار ذلك حساسيات عديدة، حيث إنه يصادم النصوص الدينية وقد أثار جدلا عريضا بين قطاع الملتزمين بالدين.
لماذا تُعد ذكرى مرور قرن على الاستقلال مهمة؟
قدمت في هذا العام ذكرى مرور قرن على الاستقلال، وفيه احتفال بكفاح أجدادنا طيلة قرن. هذا الاحتفال مهم جدا لنعيَ قيمة الاستقلال والحرية وننقل مفاهيم الحرية وأحساسيسها ومشاعرها إلى الأجيال القادمة.
في هذه الذكرى سنحت فرصة لنشر كتب عديدة عن الاستقلال وكتابة مقالات وتدوير مجالس ثقافية ولقاءات وندوات، وكل ذلك مهم لدوره في بث روح اليقظة بين أفراد الشعب.
تأتي أهمية الاحتفال كذلك للرد على تأويلات البعض الذين يريدون أن يعرّفوا الاستقلال تعريفا جديدا تحت وطأة العولمة ومتطلبات العصر. الاستقلال هو الاستقلال، والأفغان الذين هزموا الإنجليز ثلاث مرات هزموا الروس بنفس الطريقة وألجؤوا الأمريكان للجلوس على طاولة المفاوضات في الفترة الراهنة، وهذا يعني أن المعنى الجوهري للاستقلال لم يتغير في بلدنا.
تم الاهتمام كذلك ببعض التأسيسات والمنشآت التي يرجع عهدها إلى فترة حكم الغازي أمان الله، وتم الاحتفال بذكرى الاستقلال في جميع أنحاء البلد بشكل خاص أضفى على الذكرى بُعدا معنويا وعُد دواءً لأيامنا الجريحة التي طالت بلادنا نصف قرنٍ من الزمن. إعادة بث روح الثقة في جسد الشعب المنهك تطلّب الاحتفال بالشكل المذكور، لكي لا تُمحى ذكرى استقلالنا العظيم من ذاكرة التاريخ.
النواحي الخافتة في الاحتفال بالاستقلال
هناك بعض الشخصيات التاريخية التي تصير رموزا وطنية، والغازي أمان الله الذي لم يكن له نظير في المنطقة من حيث سعيه لتطوير بلده يُعد رمزا وطنيا للأفغان.
إلا أن هناك عدة نواحي تتعلق بذكرى الاستقلال لم تحظ بالاهتمام الكافي، نشير هنا إلى بعضها:
أولا، يبنغي الرجوع إلى أرشيف المذكرات التي كتبها كتاب العالم الإسلامي ومؤرخوه ومفكروه، والتي ضمنوها خواطرهم حول الغازي امان الله، مثل ما كتبه الأمير شكيب أرسلان في خواطره، وما كتبه العلامة إقبال حيال الأمير، وكذلك كتابات خان عبدالغفار خان، وخواطر قادة حركة الخلافة، وغيرها.
ثانيا، ينبغي تسليط الضوء على الجوانب المختلفة لحياة أمان الله وذلك عبر إجراء اللقاءات بأعضاء أسرته وخصوصا بنتاه هندية، وناجية، وغيرهما.
ثالثا، حرب الاستقلال التي قادها الأمير هي حرب الشعب كله، ومن الضروري أن تشمل جميع فئات الشعب، ولذا من الضروري في المستقبل أن يُطرح حوار مجتمعي شامل بين الشعب كله حيال الاستقلال، مع الحفاظ على رموز وشخصيات الاستقلال، ويُؤمل أن تتلمس بقية العرقيات أدوارهم في هذا الكفاح.
رابعا، مع الإنجازات الكبيرة والمهمة التي حققها الغازي أمان الله، تبقى بعض مراسيمه وقوانينه الذوقية محل رفض حاليا كما كانت محل رفض شعبي في السابق، وليس من الصحيح حيال هذه التعديلات التي طرحها أن تُعامل بالعواطف الجياشة، وإنما ينبغي تحليل مضامينها بالطرق العلمية، دون غلو ولا شطط.