مقدمة
تُبذل حاليا جهود حثيثة على الصعيدين المحلي والدولي لحلحلة القضية الأفغانية التي طال أمدها. وليس الأفغان وحدهم من تضرروا وعانوا جراء ويلات الحرب المستعصية، بل المنطقة والعالم بأسره. بموازاة ذلك ثمة عوامل داخلية وأخرى دولية وإقليمية تعقد الملف الأفغاني أكثر. ومع أن الحرب في أفغانستان طال أمدها بسبب تعقيد القضية من جهة وبسبب التدخلات الأجنبية من جهة ثانية؛ إلا أن إرادة الشعب الأفغاني كفيلة بإنهاء هذه الحرب مهما طال أمدها. ومن الملاحظ في المرحلة الراهنة أن نقاط الخلاف بين الأطراف الأفغانية والدخيلة في القضية قليلة بينما نقاط التوافق كثيرة، لكن المؤسف له هو عدم وجود جهود تسعى لإزالة تلك القضايا الخلافية القليلة.
وبغض النظر عن المكون الداخلي للشأن الأفغاني فإن مواطن الخلاف حول القضية الأفغانية على المستويين الإقليمي والدولي قد باتت قليلة. سنبحث في هذه الورقة مواقف الجهات الداخلية والإقليمية والدولية حول القضية الأفغانية وسنسرد مواطن التوافق والتباين.
مواقف الجهات الداخلية
أولا: الحكومة الأفغانية
إن الحكومة الأفغانية قد استلمت زمام الحكم في البلاد بدعم من المجتمع الدولي ولذا فإن مواقف الحكومة الأفغانية متأثرة بقرارات ومواقف المجتمع الدولي وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا السبب حيثما تبدلت استراتيجيات الولايات المتحدة تجاه أفغانستان تبعت ذلك تغيراتٌ في مواقف الحكومة الأفغانية. وبما أن الحكومة الأفغانية طرف أساسي في القضية فإن موقفها ومواطن خلافها ووفاقها مع الجهات الأخرى تؤثر بشكل بالغ على مسار السلام الأفغاني.
في الفترات السابقة ارتسمت مواقف الحكومة الأفغانية طرقا لاستقطاب الدعم العسكري المستمر من المجتمع الدولي، لتتمكن الحكومة الأفغانية عبر هذا الدعم من كسر شوكة أعدائها المسلحين بالكامل أو ثَنيهم عن معارضتهم المسلحة وإدغامهم في عملية السلام وفق ما تمليه الحكومة الأفغانية من شروط. والآن وبعد قرابة عقدين من الحرب والتغيرات الحاصلة في الآونة الأخيرة على وجه خاص تكاد تقتنع كل الأطراف بأن القضية الأفغانية لن تُحل عسكريا. وخلال العامين الماضيين لوحظت تغيرات في مواقف المجتمع الدولي ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية حيال القضية الأفغانية وقد آل الأمر مؤخرا إلى إعلان الولايات المتحدة سحب جميع قواتها من أفغانستان. لذا لن نتطرق إلى مواقف الحكومات الأفغانية السابقة بل سنتحدث عن مواقفها الحالية.
إن الموقف الحالي للحكومة الأفغانية منقسم إلى قسمين: الأول هو موقف رئيس الجمهورية والثاني هو موقف المجلس الأعلى للمصالحة الأفغانية. وقد تم تأسيس الحكومة بشكل مشترك من قِبل غني وعبد الله عبر اتفاق سياسي، كما أن السلطة الحالية في البلد بيد هذين الجناحين. مع أن الاتفاقية السياسية لتأسيس الحكومة الحالية منحت كافة الصلاحيات المتعلقة بملف السلام للمجلس الأعلى للمصالحة الأفغانية إلا أن السنتين الأخيرتين أثبتتا أن الكلمة الأولى حول السلام الأفغاني تصدر من القصر الرئاسي الأفغاني. في الوقت ذاته يتبنى رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية د. عبد الله عبد الله مواقف مغايرة لموقف الرئيس أشرف غني.
و إذا ألقينا نظرة على موقف القصر الرئاسي الأفغاني سيتضح أن الحكومة الأفغانية ما زالت تؤكد على تنفيذ مقترح خارطة السلام الذي قدمته في أواخر عام 2018م. وفيها تم التأكيد على ضرورة عدم التضحية بالسلام في سبيل الحصول على مصالح مؤقتة؛ ولذا تم شرح عملية السلام بصفتها عملية ممتدة ومستغرقة لزمن طويل. كما تم التأكيد في هذا المقترح على مُضيّ عملية السلام تحت إشراف الحكومة الأفغانية؛ الأمر الذي عدّه – في الماضي والحاضر -عدد من الشخصيات السياسية عقبةً أمام نجاح عملية السلام.
وترسم الرئاسة الأفغانية خارطة الطريق للسلام على النحو التالي “إن الشعب الأفغاني بحاجة إلى حكومة منتخبة لتقوم باعتماد وتنفيذ وإدارة عملية السلام الوطني”. الرئيس الأفغاني غني ما زال يؤكد على هذا الموقف إلا أن موقفه الحالي يختلف عن السابق في استعداده للانتخابات المبكرة حتى إنه صرح بعدم اعتزامه هو أو فريقه الترشح للانتخابات؛ ولكنه غير مستعد للتخلي عن السلطة دون حصول انتخابات. الموقف المذكور يشكل نقطة اختلاف بين القصر الرئاسي الأفغاني وطالبان من جهة وبين الأول والشخصيات السياسية الأخرى، وذلك لأن العديد من الجهات والشخصيات – ومن ضمنهم مسؤولون حكوميون – يعتقدون أن قرار الانتخابات في الظروف الحالية ليس قرارا عمليا كما أنه قد يشكل عائقا أمام عملية السلام. من جانبٍ تنفي حركة طالبان استعدادها لأي شكل من أشكال الانتخابات في ظل القوانين والمؤسسات الحاكمة في أفغانستان، ومن جانبٍ آخر فقدت الانتخابات الأفغانية مصداقيتها على الصعيدين المحلي والدولي نتيجة إخفاقها في الفترات السابقة؛ حيث لم يعد من الممكن إيجاد الثقة بنزاهة العملية الانتخابية إذا تم تنفيذها تحت إشراف الحكومة الحالية.
وبالتزامن مع بيان المندوب الأمريكي الخاص للسلام الأفغاني زلمي خليلزاد لمقترح الولايات المتحدة للسلام والإعلان عن مؤتمر في تركيا يجمع أطراف القضية الأفغانية، أعلن الرئيس أشرف غني عن مقترحه للمؤتمر المذكور في مؤتمر عُقد أوائل أبريل/2021م تحت مسمى (خارطة سلام أفغانستان) وقد بيّن المقترحُ موقف الحكومة إلى حد كبير وخصوصا موقف الرئيس الأفغاني وفريقه. ولقد صرح الرئيس الأفغاني في المؤتمر المذكور قائلا: “إن استمرار النظام الحاكم مهم لنا، أما بقاؤنا في السلطة فلا يهمني”، كما أكد أن بالإمكان تشكيل حكومة السلام في إطار الدستور؛ إلا أن تعيين وظائفها ينبغي أن يتم عبر الاتفاق المشترك. اشتمل مقترح الرئيس غني على ثلاث مراحل، أولها إيجاد اتفاق سياسي متزامن مع وقف إطلاق النار، وثانيها تأسيس حكومة السلام والانتخابات، والمرحلة الثالثة هي مرحلة تأسيس الدولة والأنشطة طويلة المدى. وفق تصريحه لا ينبغي لأحد أن يظن أن الرئيس المنتخب ونائبيه سيُقدمون على الاستقالة، وذلك لأن السلطة المشروعة إنما تُستمد من تصويت الشعب وكل تداول للسلطة ينبغي أن يتم عبر الانتخابات، ومع ذلك فإنه مستعد لعدم الترشح للانتخابات، مشيرا إلى أنه ينبغي مناقشة مواد الدستور الأفغاني بين الأفغان، كما أكد أن مقترحات الآخرين حيال هذا الصدد غير مقبولة. لذا يبدو أن القصر الرئاسي يخالف حصول اتفاق كامل حول مستقبل البلد في مؤتمر مثل مؤتمر إسطنبول ويؤكد على ضرورة إدارة الحكومة لقضايا السلام والتي يُسميها عملية مملوكة وتابعة للأفغان.
قبل أسابيع قليلة أبدى الرئيس غني للمرة الأولى في مقال له على مجلة Foreign Affairs استعداده للتخلي عن السلطة شريطة أن تتم عملية السلامِ، كما أيد مقترح تشكيل الحكومة المؤقتة لإدارة الفترة الانتقالية. إلا أنه مع تصريحه بهذه الموافقة أبدى عددا من الشروط وأكد على ضرورة حفظ النظام الجمهوري، ووقف إطلاق النار قبل أي شيء آخر وذكر أموراً أخرى.
باختصار يمكن القول بأن الحكومة الأفغانية تريد أن تحتكر قضية السلام لنفسها، وتريد أن تتم عملية السلام وفق منظورها وفهمها للسلام. إن مفهوم السلام لدى الحكومة الأفغانية يعني لزوم انضمام طالبان للحكومة تحت قيادة غني ومن ثم منحهم المناصب التي يريدونها. وبالتالي تريد الحكومة أن تكرر مع طالبان نموذج المصالحة الذي نفّذته مع الحزب الإسلامي.
يجدر بالإشارة أن موقف القصر الرئاسي يتبدل مع تغير الظروف وتزايد أو تقلص الضغوط، مما أوجد نوعا من التقلب والاضطراب في مواقف الحكومة وبات من العسير التنبؤ بمستقبلها.
الموقف الثاني: في المقابل، يتبنى الشريك السياسي الآخر للحكومة موقفا مغايرا تجاه السلام والأوضاع الراهنة بالبلد، ولذا لا يوجد إجماع داخلي حيال قضية السلام. ومن هذا المنطلق لم يحضر رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية د. عبد الله عبد الله ولا الساسة المنسوبون إليه مؤتمر بيان خارطة السلام. كما شوهدت اختلافات بين الفريقين فيما بعد و حين تم إعداد مقترح الحكومة للسلام. اتهم النائب الثاني لرئيس الجمهورية دكتور سرور دانش رئيسَ المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية بأنه اتخذ موقف مُحتقرا لمقترح الرئيس الأفغاني كما عدّ مقترح السلام المُهيأ من قِبل المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية مقترحاً ناقصاً.
إن رأي رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية د. عبد الله عبد الله حيال السلام مع طالبان والنظام الرئاسي الجديد ليس واضح المعالم ويبدو أن هذا الشريك السياسي للحكومة سيتخذ موقفه مع تغير الأوضاع في البلد.
وبعد بدء المفاوضات الأفغانية الداخلية في قطر وحين كانت الحكومة الأفغانية رافضة لمقترح الحكومة المؤقتة، أبدى د. عبد الله بشكل مُتضمن موافقته على قرار الحكومة المؤقتة. ولكن قبل الإعلان عن قرار خروج القوات الأجنبية عن أفغانستان بالكامل أبدى مجددا الدكتور عبد الله تصريحات يُفهم منها مخالفته لقرار الحكومة المؤقتة، حيث بيّن فيها أن السلام لن يتم عبر تأسيس الحكومة المؤقتة. وحين أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد عن إخراج كافة قواتها من أفغانستان وتم تقديم المقترح الأمريكي للسلام الأفغاني اعتمد المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية مقترحَ الولايات المتحدة مع قليل من التعديلات وأظهر المجلس في بيانه موافقته على قرار الحكومة المؤقتة. إن إبداء المقترح المذكور يبين أن موقف المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية رافضٌ لاتفاقية سلامٍ تتم تحت إدارة الحكومة، ويُرجح المجلس المذكور أن يُتخذ قرار حول مستقبل أفغانستان في مؤتمر دولي تحت إشراف الجهات الدولية.
إن رؤية المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية وحلفائه السياسيين ليست واضحة ، حيث يُفضل المجلس مراقبة الأوضاع، وحسب قولهم فـ “إنّ رأي حركة طالبان ما زال مبهما” ويبدو أنهم يخشون عودة طالبان للسلطة. ولذا صرح مرة العضو القيادي بالمجلس الأعلى للمصالحة الوطنية والمستشار السابق للرئيس الأفغاني محمد يونس قانوني بـ “المقاومة الثانية” ضد حركة طالبان.
ثانيا: موقف حركة طالبان و المعارضة المسلحة
إن مواقف حركة طالبان حتى الفترة الراهنة تمحورت حول الخروج الكامل للقوات الأجنبية من أفغانستان، كما أن موقف الحركة تجاه المفاوضات الأفغانية الداخلية لم يتضح بشكل مفصل. ولذا قال الرئيس الأفغاني في مقاله على مجلة Foreign Affairs: “لا يظهر بوضوح ما تريده حركة طالبان، إنهم يريدون نظام حكم إسلامي وهذا النظام الإسلامي موجود في أفغانستان، وعلى الحركة (طالبان) أن تبين مرادها بوضوع وبكامل التفاصيل حتى يحصل اتفاق سياسي ناجح بين الحكومة الأفغانية وطالبان”.
لقد صرحت حركة طالبان بشكل إجمالي في عدة فترات أنهم ليسوا ساعين للتفرد والاستبداد بالسلطة وأنهم يرغبون في تطبيق نظام “إسلامي” يعكس رغبة كافة المواطنين. كما أكدت حركة طالبان دوما أن نوع النظام الحاكم من أجندة المفاوضات الأفغانية الداخلية وسيتم الاتفاق حول نوع النظام على طاولة محادثات السلام.
في الأشهر الأخيرة حين ازدادت المطالب بوضع معالم للنظام الإسلامي الذي تنشده حركة طالبان، نشرت الحركة مقالا على صفحتها الرسمية تتعلق بنظام الحكم الإسلامي. صرح المقال بأن حركة طالبان ترغب في مجيئ نظام يضمن حقوق كافة المواطنين ولا تكون فيه وظيفة الرئيس حفظ مصالح واشنطن. وورد في جزء من المقال النص التالي: “إننا نبتغي نظاما إسلاميا تُصان فيه قيمنا الدينية ومصالحنا الوطنية وثقافتنا وتقاليدنا”. لذا لم تقدم حركة طالبان صورة واضحة المعالم عن النظام الإسلامي الذي ينشدونه، الأمر الذي زاد من تعقيد عملية السلام وذلك لأن جانب الحكومة الأفغانية يؤكد على حفظ النظام الجمهوري وفي المقابل تدل مواقف حركة طالبان على رفضهم الكامل للنظام الجمهوري الديمقراطي. لذا؛ عقب مؤتمر موسكو ورد في بيان اجتماع Troika مخالفة لموقف حركة طالبان وقد أبدت الحركة ردة فعل تجاه البيان، كما صرحت الحركة في مؤتمر آخر أن نوع نظام الحكم في أفغانستان أمر راجع للأفغان كما أن الشعب لن يرضى بالتنازل عن قضية إحياء نظام الحكم الإسلامي.
لطالما طالبت الحكومة الأفغانية حركة طالبان بالاستجابة لمشروع وقف إطلاق النار كما أنها أناطت كثيرا من القضايا بتنفيذ وقف إطلاق النار، إلا أن طالبان رأت أن قرار وقف إطلاق النار لوقت مؤقت لن يحل المشكلة وأن هذا القرار – وفق اتفاقية الدوحة – جزء من القضايا التي تُبحث في المفاوضات الأفغانية الداخلية حيث يتم وقف إطلاق النار بعد الاتفاق على عدد من القضايا الأخرى. ترى حركة طالبان بأن مقترح الرئيس غني للسلام يعني استسلام الحركة، و كما ترفض الحركة استمرار النظام الحاكم الذي أُسس تحت رعاية القوات الأجنبية، إنها ترغب أيضا في تغيير جذري في النظام. كما ترفض الحركة نفوذ وتأثير الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو في القرارات المتعلقة بمصير البلد وترى الحكومةَ الأفغانيةَ كجزء من هذا النفوذ، بالتالي موقف طالبان هو عدم المشاركة في أي مؤتمر تُتخذ فيه قرارات حول مستقبل أفغانستان ما لم تخرج القوات الأجنبية من أفغانستان بالكامل. علما بأن الحركة وافقت مؤخرا على المشاركة بالمؤتمر المحتمل انعقاده في إسطنبول ولكن بشروط منها: أن لا يتم اتخاذ أي قرار مصيري في المؤتمر المذكور.
ثالثاً: الجهات الأفغانية السياسية
بالإضافة إلى الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، فإن الجهات السياسية المختلفة والشخصيات والأحزاب السياسية الناشطة بأفغانستان يُعدّون العمود الآخر من أعمدة القضية الأفغانية والذي يلعب دورا محوريا على مستوى داخل البلد في مصير أفغانستان. في الوقت الراهن يتبنى الكثير من السياسيين والأحزاب السياسية مواقف معارضة لمواقف الحكومة الأفغانية، ولذا تسعى الحكومة الأفغانية ، لا سسيما الرئيس غنى لجمع مجلس تحت مسمى المجلس الأعلى للدولة بحيث يضم الكثير من السياسيين والأحزاب السياسية المذكورة حتى تُمهد الطريق لحصول إجماع شعبي حيال عملية السلام ومصير البلد. في السابق وجّهت العديد من الجهات السياسية انتقادات للحكومة بسبب عدم تهيئتها لإجماع سياسي في البلد كما أنها وصفت مطالبة الحكومة بوقف إطلاق النار بأنها مطالبة غير واقعية.
بشكل عام خالفت الأحزاب السياسية والجهات والشخصيات السياسية في البلد باستمرار موقف الحكومة الأفغانية تجاه مقترح تشكيل الحكومة المؤقتة. الكثير من الساسة يرون أن تشكيل الحكومة المؤقتة هو الحل الوحيد كما يؤكدون على ضرورة استعداد الحكومة الأفغانية الحالية للتخلي عن السلطة.
مواقف الجهات الخارجية
أولا: الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي
إن توقيع اتفاقية الدوحة بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية وإعلان الحكومة الأمريكية الجديدة فور تسلمها لأزمّة الحكم عن إخراج جميع قواتها من أفغانستان يدل على أن الولايات المتحدة وحلف الناتو راغبون في وضع نهاية للحرب في أفغانستان كما أن هذه الرغبة أكيدة وحاسمة. إن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية – وإعلان حلف الناتو بعدها – عن خروج قواتهم العسكرية من أفغانستان دون أية شروط دل على رغبتهم في الانسحاب من هذه الحرب؛ ولكن في الوقت ذاته يرغبون في حفظ مصالحهم في أفغانستان ودول المنطقة. ولذا انتشرت مؤخرا تقارير عن بعض المسؤولين الأمريكيين تفيد أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لإنشاء قواعد عسكرية لها في الدولة المجاورة لأفغانستان “باكستان”، الأمر الذي أثار ردة فعل من قِبل طالبان، هي حذرت في بيان لها الدول المجاورة لأفغانستان – دون ذكرٍ لاسم أي دولة- بأن منح مقرات عسكرية للقوات الأجنبية سيكون خطأ تاريخي وأن الشعب الأفغاني لن يصمت حياله.
إن الولايات المتحدة الأمريكية و المجتمع الدولي تدعم قرار تأسيس الحكومة المؤقتة لإنجاح عملية السلام كما وافقت الولايات المتحدة في اتفاقية الدوحة الموقعة مع طالبان على قرار إيجاد نظام حكم إسلامي جديد في أفغانستان. لذا ترغب الولايات المتحدة – لأجل مصالحها – في وضع نهاية للحرب بأفغانستان حتى تقلص تكلفة الحرب المالية. وفي الوقت ذاته ترغب في حفظ نفوذها وبقائها بشكل مؤثر في المنطقة، لذا تسعى لحفظ علاقاتها مع أي طرف يستطيع أن يستلم زمام الحكم في المستقبل.
ثانيا: دول المنطقة:
تُعد دول المنطقة الجهة الأخرى التي تلعب دورا مؤثرا في نجاح أو إخفاق عملية السلام بأفغانستان. ومن بين تلك الدول تُعتبر باكستان وإيران والهند والصين وروسيا ضالعة أكثر من غيرها في ملابسات القضية الأفغانية. يبدو أن مصالح باكستان المشتركة مع طالبان آخذة في التدني شيئا فشيئا ولذا تسعى باكستان حاليا – بخلاف حالها في السابق – لتحسين دعمها للسلام بصورة واضحة مع سعيها لزيادة رصيدها من الامتيازات والمصالح مقابل ذلك. ولأجل هذا انتشرت مؤخرا أخبارا تفيد أن البلدين (أفغانستان وباكستان) يعملان على اتفاقية أمنية ومن الممكن في هذه الاتفاقية أن تُمنح باكستان بعض الامتيازات التاريخية مثل مياه نهر كُنر أو تثبيت خط (ديورند) الحدودي وغير ذلك. ولذا تبدو الحكومة الباكستانية مستعدة لإجراء تعاقد بعيد عن مصالح طلبان؛ وذلك لأن مصالح الطرفين (باكستان وطالبان) ستبتعد شيئا فشيئا عن بعضها بعد خروج القوات الأمريكية من أفغانستان.
أما الهند فإنها تخشى من تعزيز دور باكستان في القضية الأفغانية وتبدي قلقها بين الفينة والأخرى من عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان، إلا أنها بصورة مجملة لا تخالف نجاح عملية السلام الأفغاني.
أما إيران فليست دخيلة في عملية السلام الأفغاني بصورة مباشرة كما هو حال باكستان، وكثيرا ما اختارت الصمت ، إلا أن هناك مخاوف من أن تخلق إيران عوائق أمام عملية السلام وحتى أمام استقرار أفغانستان في المستقبل إذا رأت في السلام الأفغاني ما يهدد مصالحها. في السابق بُنيت العلاقة بين إيران وطالبان على الهدف المشترك (خروج القوات الأمريكية من أفغانستان) إلا أن إيران بعد التحولات الأخيرة تتوخى سياسة اجتناب إحداث علاقات مع طالبان. تعتقد إيران أن هناك خطرا بعودة طالبان للسلطة في حال إخفاق عملية السلام ولذا ترى أن مصالح طهران ستُحفظ إلى حد ما في ظل نجاح عملية السلام. ولذا أبدت إيران موافقتها على مطالبة طالبان بـ (تأسيس الحكومة الإسلامية المستوعبة للجميع). أما روسيا والصين فتستحسنان قرار خروج القوات الأمريكية من المنطقة، إلا أن لديهما مخاوف في نفس الوقت كذلك. لذا ترجح الدولتان نجاح عملية السلام بين الحكومة وطالبان حتى لا يُهدد اختلال الأمن في المنطقة أمنهما.
مواضع الاتفاق والاختلاف
بالنظر إلى وضع أفغانستان الحالي، يتضح أن القضايا الرئيسة المسببة للحرب قد حُلت. لقد كان حضور القوات الأجنبية في البلد هو أهم عامل من عوامل الحرب، وهذه القضية حاليا آخذة في الزوال بالكامل. بالإضافة إلى ذلك فقد حُلت قضايا خلافية كثيرة أخرى بين الأطراف الدخيلة في الحرب الأفغانية ومن أمثلتها تسليم أزمة السلطة لحكومة مؤقتة حيث تقبل جميع الأطراف هذا المقترح. ولكن مع ذلك؛ لمَ لا يُرى تقدم ملحوظ في ملف السلام؟ وما هي القضايا الخلافية الرئيسة التي شكلت عائقا يحول دون نجاح عملية السلام؟ وفي الوقت ذاته ما هي القضايا التي تم الاتفاق عليها كليا أو جزئيا بين أطراف النزاع؟
أ – النقاط المتفق عليها:
أولا: خروج القوات الأجنبية بالكامل: كان السبب الرئيس الذي دفع طالبان للحرب في أفغانستان هو حضور القوات الأجنبية في البلد، ومع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية سحب كافة قواتها عن أفغانستان حُلت هذه القضية من أساسها، كما أن الحكومة الأفغانية التي سعت في السابق لاستمرار بقاء القوات الأجنبية باتت تقبل بقرار خروج القوات المذكورة بل وتعد ذلك فرصة للسلام. الجهات السياسية الأخرى أيضا تريد الخروج الكامل للقوات الأجنبية، إلا أن بعض الأحزاب والشخصيات السياسية تقلق من تكرار التجارب المأساوية السابقة في حالة الخروج الكامل للقوات الأجنبية قبل توقيع اتفاقية السلام.
ثانيا: تشكيل الحكومة المؤقتة: في السنوات الماضية شكلت معارضة النظام الحاكم لمقترح الحكومة المؤقتة عائقا أمام عملية السلام وهو مقترح طالبت به جهات سياسية مختلفة حيث كانت ترى أن عملية السلام لن تنجح دون تأسيس حكومة مؤقتة. حاليا تتفق حركة طالبان والحكومة الأفغانية والجهات السياسية الداخلية والمجتمع الدولي على ضرورة تسليم السلطة إلى إدارة مؤقتة وبالتالي فإن ما كان يُعد عائقا في هذا الصدد قد أزيل إلى حد كبير، مع أن هناك خلافات ومخاوف حول كيفية تسليم الحكومةِ الأفغانية السلطةَ إلى تلك الإدارة. وفي السياق ذاته هناك خلافات حول نوع الحكم في الإدارة المؤقتة المذكورة، إلا أن ما تطالب به العديد من الجهات السياسية هو أن تكون الإدارة المؤقتة محايدة بالكامل كما ينبغي أن لا تتشكل هذه الإدارة نتيجة تقاسم السلطة وذلك لأن الحكومات الائتلافية تمخضت عن نتائج سلبية في الماضي.
ثالثا: الدستور: في السنوات السابقة كانت الحكومة الأفغانية تعتبر الدستور خطاً أحمر في عملية السلام وقد عُدّ ذلك عائقا يحول دون نجاح عملية السلام؛ إلا أن الحكومة الآن موافقة على إحداث تعديلات في الدستور كما أنها مستعدة للتفاوض حول هذا الأمر مع الجانب المقابل لها على طاولة مفاوضات السلام.
رابعا: حقوق الإنسان: مع أن موضوع حقوق الإنسان يُشكل جزءا من الدستور، إلا أن قضايا مثل حقوق المرأة وحرية التعبير شكلت عائقا أمام عملية السلام، حيث افتُرض أن الجانب المقابل للحكومة (حركة طالبان) لا يقبل بالحقوق المذكورة، لكن الحركة في السنوات الأخيرة أكدت عدة مرات على احترامها لكافة حقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة وحرية التعبير داخل إطار الشريعة الإسلامية. هذا الموضوع ليس من القضايا التي تُبحث في المراحل الأولى من عملية السلام، وإنما تُفوض صلاحية اتخاذ القرار حيال هذه القضايا إلى الشعب الأفغاني وتحديدا من ينوبون عن الشعب في المؤتمر الوطني الأعلى المسمى بـ (لويه جركه).
خامسا: نظام الحكم الإسلامي: بعد مسألة حضور القوات الأجنبية في البلد تُعد مسألة تحكيم نظام الحكم الإسلامي هي العامل الأهم الذي يُطرح من قِبل طالبان، مع تأكيد الحكومة الأفغانية المستمر على أن نظام الدولة هو الإسلام. مع أن طرفي النزاع مختلفان حول مدى كون النظام الحاكم بالبلد إسلاميا، إلا أن حركة طالبان لم تقدم تفصيلات حول طريقة تأسيس وكيفية عمل نظام الحكم الإسلامي الذي ينشدونه؛ كما أن جميع الأطراف متفقة على أن يكون النظام الحاكم إسلامياً ومن الممكن أن تتم مناقشة تفاصيل النظام ليُتفق عليها.
ب: نقاط الخلاف:
بشكل عام هناك اتفاق بين الأطراف المتنازعة في قضايا كثيرة، وأن القضايا الاختلافية قليلة جداً وهي تدور حول كيفية تقاسم السلطة. في هذا الصدد نرى أن النقاط التالية جديرة بالاهتمام:
أولاً: نوع النظام الرئاسي – إمارة أم جمهورية: هناك اتفاق على أن يكون النظام الحاكم بأفغانستان هو النظام الإسلامي، إلا أن هناك خلافا حول نوع النظام المنشود. الحكومة الأفغانية وبقية الجهات السياسية تقلق من إصرار حركة طالبان على إحياء نظام الإمارة في حين أن الحكومة الأفغانية تطرح النظام الجمهوري كخط أحمر. الرئيس غني في مقاله الأخير ذكر أن النظام الجمهوري سيبقى مكانه بعد وقف إطلاق النار، وتحت ظل هذا النظام ستتم اتفاقية تشكيل الحكومة المؤقتة.
ثانيا: الانتخابات: وفق الحكومة الأفغانية تُعد الانتخابات الطريق الوحيد للوصول إلى السلطة الشرعية؛ ولكن بما أن نوع النظام الحاكم ما زال أمرا مختلفا فيه فالانتخابات كذلك تُطرح كقضية خلافية. من جانب آخر يُعد نظام الانتخابات الحالي غير مكتمل كما أن انعقاد الانتخابات في مثل الأوضاع الراهنة قد يخلق مشاكل ويزيد من تعقيد الأزمة. من جهة أخرى أوضحت حركة طالبان أنها لا تسعى لنظام حكم يحتكر السلطة ويجعلها مستبدة بها، وإنما ترغب في تحكيم نظام يعكس إرادة الشعب كافة؛ لكنها لم تُبد رأيها حول كيفية اختيار الحاكم.
ثالثاً: وقف إطلاق النار: تؤكد الحكومة وبعض الجهات السياسية الأخرى على ضرورة البدء بوقف إطلاق النار قبل المضيّ قُدما في بقية مراحل عملية السلام؛ إلا أن حركة طالبان تعدّ وقف إطلاق النار جزءا من مفاوضات السلام وترى أن وقف إطلاق النار دون حصول اتفاقية السلام ليس حلا ناجعاً.
بصورة مجملة يمكننا القول بأن نقاط الخلاف المذكورة ليست على أي وجه قابلة للاتفاق، بل يسهل الوصول إلى حلول لها في حال استمرار مفاوضات السلام. لذا هناك ضرورة فائقة للاستمرار في التفاوض حتى تُحسم هذه القضايا المختلف حولها.
المقترحات:
- ما زالت هناك مخاوف من سعي أطراف النزاع إلى الحصول على السلطة أو استبقائها باستخدام القوة. التجارب السابقة أثبتت أن الاستبداد بالسلطة باستخدام القوة ليس حلاً ممكناً لأي طرف. لذا ينبغي ترجيح طريق السلام وعدم وضع عوائق في سبيله حتى تتوقف دوامة الحرب في البلد بأسرع وقت ممكن.
- إن نقاط الاتفاق بين أطراف القضية الأفغانية في الوقت الراهن أكثر منها في أي وقت مضى كما أن نقاط الاختلاف باتت قليلة. ولكن في الوقت ذاته ما زالت الحرب مستمرة، وهي تحصد أرواح الأفغان كل يوم، لذا تُناشَد الأطراف الدخيلة بأن تعمل في أسرع فرصة ممكنة على إزالة نقاط الاختلاف القليلة والوصول إلى اتفاق كامل عبر المفاوضات.
- يظهر أن جذور الخلافات الحالية تدور حول قضية تقاسم السلطة. حسب التجارب السابقة فإن الحكومات الائتلافية التي أُسست على أساس تقاسم السلطة قد واجهت الفشل، ولذا من الضروري تأسيس حكومة مؤقتة ومحايدة بالكامل ثم يتم العمل بعدها على تسليم السلطة لحكومة منتخبة.
- وقف إطلاق النار مطلب أساسي كما أن النزيف الحاصل في البلد ينبغي أن يوقف عاجلا. من جانبٍ آخر وبالنظر في الأوضاع يبدو أنه لا سبيل لإيجاد الثقة المتبادلة بين أطراف النزاع دون وقفٍ لإطلاق النار، الأمر الذي تمس الحاجة إليه لإنجاح عملية السلام. في حال شعرت طالبان بأن موافقتها على وقف إطلاق النار سيُضيّع ورقة ضغطها على الحكومة؛ فبإمكان الحركة أن تتخذ القرار حول الحكومة المؤقتة وحول وقف إطلاق النار في وقت متزامن.
- على الجهات ذات العلاقة والأطراف السياسية الأخرى أن تُدرك أن انعقاد مؤتمرٍ أو مؤتمرين لا يكفي للوصول إلى اتفاق كامل حول القضايا الاختلافية وخصوصا الأمور المتعلقة بالقيم وتفاصيل الحُكم، وإنما ينبغي ترك هذه القضايا ليتم اتخاذ القرار حولها من قبل الشعب.
- مع أن المجتمع الدولي والدول المجاورة لأفغانستان توافق على معظم قضايا عملية السلام بالبلد، إلا أن من الضروري اتخاذ خطوات حازمة لإزالة ما يُقلق الدول المجاورة ودول المنطقة حتى لا تضع هذه الدول حواجز أمام طريق السلام.
- مع أن هناك تقارباً في آراء كافة الأطراف على مستوى البلد، إلا أن قضية السلام وشؤون مرحلة ما بعد السلام مازالت بحاجة إلى إجماع وطني، ومن ثم تمس الحاجة لإجراءات تملأ هذه الفجوة وتُمهّد الطرق بعدها لحل القضايا الخلافية عبر الحوار الوطني.
النهاية