في الرابع من يناير/2020م قُتل القائد الذي يُعد خبيرا بإستراتيجيات الحرب قاسم سليماني في غارة جوية أُطلقت بأمر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقد كان سليماني قائدا لفيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني وكان يلعب دور الممثل العسكري لإيران في الخارج. وعقب مقتله قامت إيران بإطلاق عشرات الصواريخ البالستية على مقرات أمريكا العسكرية في العراق، ثأرا لدم سليماني. عدّ الرئيس الأمريكي مقتل سليماني إنجازا كبيرا، وذكر بأنه أصدر الأمر بالهجمة حفاظا على أمريكا وعلى العالم. أصدر رئيس الوزراء العراقي بيانا ندد فيه بمقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، واعتبر الهجمة انتهاكا لاستقلال العراق في الحكم على أرضها وانتهاكا لشروط حضور القوات الأمريكية في العراق. أصدرت المنظمات العالمية والجماعات والمؤسسات الداعمة لإيران بيانات وسمت فيها مقتل سليماني بالخسارة الكبيرة لإيران، أما بقية الدول فقد رحبت بالحدث لكونه يُقلل توترات المنطقة أمنيا.
من هو قاسم سليماني؟
عندما عاد آية الله الخميني إلى إيران عام 1979م وتمت الإطاحة بالشاه في ما سُمي بالانقلاب الإسلامي، انضم قاسم سليماني إلى الحرس الثوري الإيراني، وقد بزغ نجمه في الحرب الدامية بين إيران والعراق سنة 1980م، وفي عام 1990م عُين قائدا للحرس الثوري. إلا أنه لم يكن مشهورا قبل الهجوم الأمريكي على العراق سنة 2003م. وقد حظي سليماني بإشادة قيادة إيران بقدراته عندما راقب وأشرف على إستراتيجيات حزب الله في الحرب مع إسرائيل سنة 2006م، كما أنه تسبب في إتاحة توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين جماعة “جيش المهدي” الشيعية والجيش العراقي. كما وصفته المخابرات الأمريكية بأنه القائد المحرك والمنظر لأحلام إيران التوسعية في المنطقة. ذكر الجنرال ديفيد بتريوس، الرئيس السابق للمخابرات الأمريكية، أن سليماني قال له مرة: أيها الجنرال بتريوس، عليك أن تعلم، أنني أنا قاسم سليماني أدير سياسة إيران تجاه العراق ولبنان وغزة وأفغانستان”. لقد حوّل سليماني فيلق القدس إلى أهم عنصر نشط إيراني في لبنان والعراق وسوريا وفلسطين، وشؤون النزاع مع إسرائيل واليمن وحتى البحرين. إن ما يُسمى حاليا بسياسة إيران الشرق أوسطية هي في الحقيقة نتاج أنشطة فيلق القدس وشخص قاسم سليماني. لقد حوّل فيلق القدس – بالإضافة إلى تعزيز أسلحته الصاروخية – إلى أحد ركنَي إيران العسكريّيْن.
فيلق القدس
فيلق القدس هو الذراع الإيراني الذي يعمل خارج إيران، بل هو أهم ذراع عسكري مخابراتي للحكومة الإيرانية في الشرق الأوسط. من جملة أنشطة هذه الجماعة العسكرية القيام بتعليم وتربية وتدريب المليشيات الشيعية في الدول المختلفة ويهدف إلى مجابهة الجماعات المسلحة السنية في المنطقة والتي تُموّل – حسب زعم فيلق القدس – من السعودية والدول الغربية. منذ عدة عقود ينشط فيلق القدس في دول عديدة في التدريب والإعداد للعديد من الجماعات المسلحة، مثل الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن، وجيش النظام السوري وحزب الله اللبناني، وحركة الجهاد الإسلامي في غزة والضفة الغربية. وقد كان لسليماني دور مهم في العمل لمصالح إيران في المنطقة، حيث إنه من خلال الدعم المالي واللوجستي للمليشيات الشيعية قوّى موقف إيران وتحكمها في الساحة العراقية، وقد اتحدت هذه المليشيات وشكلت تضامنا شعبيا، حيث ساعدت قوات قاسم سليماني عساكرَ نظامِ الأسد في مواجهتهم للثوار السنيين الساعين لاسترداد مناطقهم بما فيهم جماعة الدولة الإسلامية أو ما يُسمى بداعش. من الجدير بالذكر كذلك أن هناك أفغانا شاركوا في الحرب السورية منضوين تحت لواء فيلق القدس، ووفق الإحصائيات المنتشرة فقد قُتل في الحرب السورية أكثر من 2500 مواطن أفغاني. يقول حسن حسن مؤلف كتاب (الدولة الإسلامية في العراق والشام) والمحلل الشهير في شؤون الشرق الأوسط: إن قتل سليماني سيؤدي إلى إضعاف موقف إيران في المنطقة، وخصوصا في سوريا وأفغانستان والعراق.
لماذا قُتل سليماني؟
هناك أفراد طالبوا ترامب مكررا باتخاذ خطوات عسكرية ضد إيران والسعي نحو تغيير النظام في إيران منهم مستشارون سابقون بالأمن الوطني الأمريكي مثل (مايكل فلين) و (جون بولتون)، وبعض مستشاريه غير الرسميين أمثال بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان ولي العهد السعودي. إلا أن ترامب لم يهتم بتوصياتهم في الأعوام الثلاث الماضية، وأكد على أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسعى للحرب مع إيران. وعوضا عن الحرب، اتبع سياسة العقوبات الاقتصادية على طهران، وكان هدفه هو أن يُشلّ الاقتصاد الإيراني، ويكسر آمال خامنه يي التوسعية في المنطقة ويخضع طهران للرجوع إلى طاولة المفاوضات لتوقيع اتفاقية جديدة. ولعل ترامب في الفترة الأخيرة أدرك أن سياسته التي تبنت منهج الضغط على طهران قد فشلت. السياسة المذكورة قد تكون أضرت بإيران، إلا أنها لم تقدر على تهميش قيادة إيران. هجمة مؤيدي النظام الإيراني في العراق على السفارة الأمريكية في بغداد ذكّرت بهجمتين شُنتا على أمريكا، الأولى تمثلت في الهجوم والسيطرة على السفارة الأمريكية في طهران سنة 1979م، والثانية هي الهجوم على المجمع الأمريكي الدبلوماسي في بن غازي بدولة ليبيا سنة 2012م. الهجوم الأول أضعف معنويات حكومة كارتر، والثانية أضعفت معنويات حكومة أوباما. تزعم حكومة ترامب أن الهدف من اغتيال سليماني هو الحفاظ على أرواح الأمريكيين من الهجمات المستقبلية وليس الهدف هو بدء الحرب مع إيران. أو كما يقول بعض المتشائمون؛ الهدف من اغتيال سليماني هو المحافظة على منصب ترامب الرئاسي عبر صرف الأنظار بعيدا عن استجوابه خلال العام الجاري حيث يقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية. على كل حال، يُظهر لنا الاغتيال أن تركيز حكومة ترامب من بعد لن يكون على سياسة العقوبات الاقتصادية، ومن جانبٍ آخر يُظهر أن الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة إلى قدرتها الاقتصادية فإنها مستعدة لاستخدام قوتها العسكرية. إلا أن الشيء المسلّم به هو أنه لا أحد من الطرفين (الولايات المتحدة الأمريكية وإيران) يرغب في الدخول في حرب حقيقية مع الآخر.
سياسة إيران بعد مقتل سليماني
من البداية، عدت إيران خروج ترامب من (برجام) تعاليا غير مبرر. في الحين الذي أضرت فيه العقوبات الاقتصادية بصادرات إيران كالنفط، وأوصلته إلى حد التدهور، نجد في المقابل أن طهران زادت من هجماتها، واستهدفت مقرات الولايات المتحدة الأمريكية ومن ذلك الهجوم على المنشآت النفطية السعودية. آخر هجمة وقعت هي هجمات الجماعات الممولة من إيران على المقرات الأمريكية في العراق. أنشأت طهران كذلك اتحادا إستراتيجيا مع روسيا والصين، وقد أدخلتهما أواخر ديسمبر/2019م في المنافسات الجديدة على خليج عمان. اغتيال سليماني لن يغير شيئا من سياسات إيران الازدواجية المذكورة، وإنما سيقويها. إن إلقاء نظرة على التاريخ سيدلنا على أن إيران ستبتلع الحدث وستجتنب الدخول في حرب كاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تفوقها عسكريا بما لا يُقاس. دعا ترامب الإيرانيين إلى طاولة الحوار بعد الهجوم الإيراني على المقرات العسكرية الأمريكية في العراق، إلا أن إيران تفضل الحرب في الظلال (عبر الجماعات الداعمة لإيران في المنطقة). إن إيران لم تترك حدث اغتيال سليماني دون ردة فعل. من الخيارات المُتاحة على طاولة القرار الإيراني: الاغتيالات، والهجمات السرية، والاشتباكات والإخلال بسير ناقلات النفط والغواصات في خليج فارس، ولكن يبدو أن إيران في تفاهم غير مُعلن مع ندّها (أمريكا) اكتفت بإلقاء عدة صواريخ على المقرات العسكرية الأمريكية في عين الأسد ومطار أربيل، وتعد أمريكا نفسها في هذه الهجمات منتصرة حيث لم تخسر أي خسائر بشرية. أما إذا نجحت إيران في إخراج القوات الأمريكية من العراق عبر الجماعات المؤيدة لإيران؛ فإن النزاع سيحتد بين الطرفين أكثر.
تأثيرات مقتل سليماني على عملية السلام بأفغانستان
مقتل قاسم سليماني، ثاني أقوى شخصية إيرانية من قِبل القوات الأمريكية قد يؤثر تأثيرا سلبيا على السلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. ستتواجه واشنطن وطهران في أفغانستان بشكل غير مباشر، وسيتضرر من ذلك الشعب الأفغاني. قد ساندت إيران من قبل الجماعات المسلحة في أفغانستان، وفي حال ازدياد التوترات بين إيران وأمريكا، فستزيد إيرن من دعمها العسكري. وإذا استمر التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران فستستغل إيران حركةَ طالبان وبعض الجماعات الأخرى في حربها بالنيابة في أفغانستان. هذا وقد ذكر مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكية قبل أيام إن إيران تدعم بعض الجماعات المسلحة في أفغانستان بشكل نشط.
الموضوع الآخر المرتبط بالتوترات الأخيرة بين إيران وأمريكا هو استغلال طالبان للوضع الحالة كآلة ضغط. تسعى أمريكا إلى أن تصل مفاوضاتها مع طالبان إلى نتيجةٍ تأتي على ما ترغب أمريكا، إلا أن طالبان تسعى إلى أن تكون يدها هي العليا في هذه المفاوضات.
النتائج
حاليا بما أن طهران وواشنطن قد بدآ إطلاق النار، فيبدو أن الصراع بينهما سيستمر في الخفاء، كما استمر خلال أربعة عقود، وسيسعى الحرس الثوري الإيراني للأخذ بثأر قاسم سليماني من الولايات المتحدة الأمريكية. حاليا بعد مقتل سليماني، تعلم إيران أن أي هجمة من جانبها أو من جانب الجماعات المسلحة المؤيدة لها قد تودي إلى هجمة مرتدة من الولايات المتحدة الأمريكية. الشيء الذي قيّد أيادي وأرجل النظام الإيراني في هذه المدة الوجيزة هو إسقاط الطائرة الأوكرانية بالخطأ بسبب صاروخ مُطلق من الحرس الثوري وأدى إلى مقتل جميع من على الطائرة. وسيكشف الزمن إلى أي مدى ستستطيع إيران أن تقنع الأطراف المختلفة بما فيها أوكراينا وكندا وأفغانستان حيال الحدث وكيف ستخرج بأقل الخسائر. يختلف هذا الحدث عن حدث مقتل سليماني وردة الفعل الإيرانية تجاهه. إسقاط الطائرة الأوكرانية سيكون له آثار ونتائج سياسية واقتصادية وإنسانية طويلة المدى وسيضع جهات عديدة في موقف معادي لإيران، بخلاف حدث مقتل سليماني.