في مؤتمر صحفي بتاريخ 27/أكتوبر/2019م أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل مفاجئ عن مقتل قائد تنظيم داعش المُسمى بالدولة الإسلامية من قِبل القوات الأمريكية الخاصة في شمال غربيّ سوريا. وفي محاولة لتكبير حجم الحدث وبلهجةٍ تهكمية وسم ترامب البغداديَّ بالجبان والخاسر وقال عنه: (لقد كان يبكي ويصرخ، وقد فجّر حزاما ناسفا ليودي بحايته وحياة ثلاثة من أبنائه داخل نفقٍ مغلق). وكانت الوكالات الإخبارية الأمريكية بما فيها سي إن إن و وكالة نيويورك تايمز ووكالة نيوزويك قد أعلنت من قبل عن احتمالية مقتل البغدادي في مدينة إدلب السورية.
ونظرا لأهمية الحدث، فقد خصصنا هذا الجزء من تحليل الأسبوع للحديث عنه وعن تأثيراته على العالم بشكل عام، وعلى أفغانستان بشكل أخص.
نبذة عن حياة البغدادي
لا تتوفر معلومات كثيرة حول حياة البغدادي، وخصوصا فترة شبابه ومراهقته. وحتى بعد توليه لقيادة داعش لم يكن يظهر للعيان كما أنه لم يكن يُصدر البيانات الصوتية مثل ما كان يفعل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم من قادة القاعدة السابقين والحاليين. القادة الذين كانوا ينشطون تحت إمرة البغدادي لم يتحدثوا إطلاقا عن لقاءاتهم المباشرة معه، ويُعرف أنه كان يتقنع حين لقائه بأعضاء التنظيم، ولذا سُمي بـ (الشيخ غير المرئي).
يُقال إن البغدادي وُلد عام 1971م في مدينة سامراء شمال بغداد، وفي فترة الهجوم الأمريكي على العراق عام 2003م كان إماما بأحد المساجد الصغيرة، في حين أن الروايات الأخرى تتحدث عن أنشطته العسكرية فترة حكم صدام حسين. من المعروف أنه سُجن مع قادة القاعدة السابقين في سجن بوكا جنوبي العراق حيث كان يُعتقل معظم قادة القاعدة، وأمضى هناك أربع سنوات وتلقى الأفكار المتطرفة في فترة بقائه في السجن. تولى البغدادي قيادة القاعدة عام 2010م في العراق، إلا أنه لم يبايع أيمن الظواهري حيث كان الأخير يطلب منه قصر تركيزه على العراق وترك سوريا ميدانا لجبهة النصرة. والواقع يحكي أن البغدادي بعد بزوغ نجم داعش كسب مكانة أكبر من مكانة الظواهري لدى مناصري القاعدة في مختلف أنحاء العالم.
في أكتوبر/2011م نشرت الولايات المتحدة الأمريكية بيانا رسميا وسمت فيه البغدادي بالإرهاب كما أعلنت عن جائزة قدرها 10 ملايين دولار لمن يُقدم معلومات تُفضي إلى إلقاء القبض على البغدادي، وقد ارتفع المبلغ في السنوات التالية للإعلان حتى وصل إلى 25 مليون دولار.
كيف وقع البغدادي في الفخ؟
للإيقاع بالبغدادي رواية مُلفتة للنظر. وفق تقرير شبكة الجزيرة نت، لعب اثنان من نواب البغدادي دورا مهما في الإيقاع به، وهو الشخص الذي بسط حكمه – في فترة ذروة سلطة داعش عام 2014م – على مساحة 100 ألف كيلومتر مربع يقطنها 10 ملايين نسمة. أحدهما يُدعى إسماعيل العيثاوي وقد تم اعتقاله من قِبل المخابرات العراقية في فبراير/2018م. وقد قدم للمخابرات ضمن اعترافاته معلومات مهمة حيال كيفية نجاة البغدادي من المحاولات العديدة التي قامت بها القوات الأمنية لإلقاء القبض عليه، كما أنه أفاد بأن البغدادي كان يُجري محادثاته الإستراتيجية مع نوابه داخل حافلات مُخصصة لنقل الخضراوات.
يقول أحد مسؤولي المخابرات العراقية إن العيثاوي قدم لهم معلومات هامة حيال أماكن اختباء وتنقل البغدادي وأسماء خمسة من معاونيه – بما فيهم هو نفسه – والأماكن التي كان يلتقي بهم البغدادي فيها. وقد تم إيصال المعلومات المذكورة للمخابرات التابعة للدول الأخرى ومنها وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA. ولا شك أن إفادات العيثاوي لعبت في إلقاء القبض على البغدادي دورا أهم من أدوار بقية موظفي المخابرات الذين كانوا يبحثون عن البغدادي ليل نهار. العيثاوي حاصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية وقد اعتُقل من قِبل القوات الأمريكية عام 2006م مثل البغدادي، وأُطلق سراحه بعد أربع سنوات.
حسب ما يبدو للمتابعين، اكتُشف أواسط عام 2019م أن البغدادي يعيش في إدلب برفقة أسرته وثلاثة من معاونيه المقربين منه ويتنقّلون من قريةٍ إلى قريةٍ أخرى. أبو سليمان الخالدي هو ثاني من قدم للمخابرات العراقية المعلومات التي أوصلت إلى الإيقاع بالبغدادي، إلا أن الشخص الذي لعب الدور الأساسي لم يُفصَح عن اسمه بعد. وفق التقارير كان هذا الشخص من المقربين للبغدادي، إلا أنه بعد مقتل أقاربه على يد عناصر داعش اتخذ موقفا معاديا لهم ولذا تم توظيفه للتجسس على البغدادي من قبل مخابرات القوات الديمقراطية العراقية التي يُشكل الأكراد جل أفرادها، ومن هنا ارتبط بالمخابرات الأمريكية (CIA). مع أن المسؤولين الأمريكيين لم يعترفوا بعد إلا أن المعلومات التي قدمها هذا الشخص أدت في النهاية إلى تحديد مكان سكن البغدادي في إدلب ومن ثم شن الهجمة على مقره. وفق أحدث التقارير؛ كان البغدادي في الأشهر الستة الأخيرة يختبئ في قرية باريشا بمحافظة إدلب السورية.
داعش بعد وفاة القائد
وفي خضم انشغال وسائل الإعلام بتناقل خبر مقتل البغدادي، يُطرح سؤال مهم حول الشخص الذي سيخلف البغدادي في قيادة تنظيم داعش. مع أن قتل البغدادي يُعد ضربة قوية في هيكل تنظيم داعش، إلا أن التنظيم لن يضمحل بوفاة قائده كما لم يضمحل تنظيم القاعدة بوفاة أسامة بن لادن عام 2011م. قام تنظيم داعش منذ بداية نشاطه على مبدأ عدم التمحور حول القيادة، بخلاف التنظيمات الأخرى، وخصوصا بعد أبريل/2019م حيث أعلن البغدادي في مقطع مصور عن نقل صلاحياته إلى لجنةٍ خاصة. وفق التقارير كان للبغدادي دور معنوي ورمزي في التنظيم، ولم يلعب دورا في اتخاذ القرارات ووضع الخطط.
بعد مقتل البغدادي بخمسة أيام، أُعلن عن شخص غير معروف يُدعى أبا إبراهيم الهاشمي القرشي كخليفة للبغدادي، مع أن هذا الشخص لم يكن ضمن قادة التنظيم. لعل هذا الشخص هو عبدالله قرداش، العراقي التركماني المقرب من قائد داعش والذي توقع الكثيرين استخلافه بعد البغدادي، ولعل اسمه وهميٌّ بالكامل كما يظن آخرون. على كل حال، داعش مضطرة إلى الإعلان عن تفاصيل أكثر في الأيام القادمة.
يعتقد حسن أبو هنية الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية أن تنظيم داعش رغم انهزامه في العراق وسوريا ومقتل قائده يملك قوة ذاتية ولديه القابلية للتقدم في المستقبل، كما يرى الباحث أن لداعش تحرك نشط في 8 دول آسيوية وأفريقية، في حين أن وزارة الدفاع الأمريكية تقدّر أن عدد عساكر داعش يتراوح بين 14 و 18 ألف شخص. وفق تقرير للجزيرة، تعتقد دانا ستراول إحدى المسؤولات السابقات بالبنتاغون أن مقتل البغدادي لا يعني نهاية داعش، كما أن وفاة أسامة بن لادن لم يعنِ نهاية القاعدة.
تأثيرات مقتل البغدادي
قُتل البغدادي في وقتٍ وصلت فيه قوة داعش في المنطقة العربية إلى أدنى مستوياتها، وقد أُسر الآلاف من جنودها السابقين في معتقلات العراق وسوريا، وقلما تتطرق الوكالات الإخبارية إلى ذكر ذلك. إذا لم يكن مقتله ضرورة سياسية لدونالد ترامب فربما لم تكن الإطاحة بالبغدادي أولوية لدى أيٍّ من دول المنطقة.
لعل دونالد ترامب أراد من إشاعة خبر مقتل البغدادي أن يُظهر نفسه صاحب دور مشابه لدور باراك أوباما الذي استطاع من خلال إعلان خبر مقتل أسامة بن لادن أن يجمع أصوات الشعب الأمريكي للترشح الثاني للرئاسة. والحال أن هناك اختلافات كثيرة بين مقتل ابن لادن ومقتل البغدادي وأول من يعلم ذلك الأمريكيون أنفسهم. نقلت مجلة نيوزيك عن قناة سي إن بي سي مقولة جان هارفارد: ( مع أن مقتل البغدادي قد يكون حدثا إيجابيا، إلا أنه ليس من المحتمل أن يُغير هذا الحدثُ الرأيَ العام حيال سياسات دونالد ترامب). الكاتب الأمريكي سيان أوجرادي خطا خطوة أكبر وقال: (مقتل البغدادي لا يعني بالضرورة تحول العالم إلى بقعة أكثر أمنا؛ ما دام دونالد ترامب معتليا كرسي الرئاسة).
أما مجلة تايمز البريطانية فإنها تُحذّر الغرب قائلة بأن مقتل البغدادي قد يتسبب في زيادة العنف في العالم، كما تُضيف المجلة أن الجماعات المسلحة التابعة لداعش قد تُغير تكتيكاتها وأسالبيها القتالية في كافة أنحاء العالم. ذكرت المجلة في آخر المقال: (ما دامت المظالم موجودة في العالم العربي فإن التنظيمات الإرهابية ستبقى قائمة). ترى المجلة أن السبب في نشوء الجماعات الإسلامية المتطرفة في الشرق الأوسط يكمن في الاستبداد والاضطهاد التي تمارسه الحكومات العربية.
أما أنشطة جناح داعش الذي ينشط في أفغانستان منذ سنوات والموسوم بجناح خراسان فلعله لن يتأثير كثيرا بمقتل البغدادي، حيث إن هذا الجناح أبدى استقلالية في نشاطه ويتأثر في الغالب بالعوامل الإقليمية أكثر من التحولات التي تطرأ على الجماعة الأم بالعراق وسوريا. وقعت اشتباكات دامية في الفترة الأخيرة بين عناصر داعش وطالبان في مختلف ولايات أفغانستان وخصوصا في الولايات الشرقية وقد تسببت هذه الاشتباكات في إيقاع خسائر كبيرة في صفوف داعش أجبرتها على الانسحاب عن بعض المناطق. إلا أن مستقبل الجماعات المسلحة في أفغانستان يرتبط بالسياسات التي ستنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان وسيرتبط كذلك بمصير مفاوضات السلام الأفغاني، التي دبَّ فيها النشاط بعد ركود ملحوظ.