يبدو أننا نعيش في عالم تراقب القوى العظمى فيها تحركات البشر، مثل مراقبة الأحياء الدقيقة في المختبرات. عندما لا يمكن للفرد أن يصون مكالماته ومراسلاته، يحس نفسيا أنه عار من اللباس، وأن حياته كلها معرضة لفحص جهة باسم الدولة أو الدولة العالمية.
فجر “ادوارد سنودن” عميل أسبق لدى “سي آي آيه” أو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بعد لجوئه إلى روسيا، معلومات أفادت أن أمريكا كانت تتنصت منذ سنوات، حتى لهواتف أصدقائها، مثل رئيسة الوزراء الآلمانية. ولم ينحصر هذا التنصت لهاتف السيدة “ميركل” بل شمل مكالمات العشرات من زعماء الدول وهم يُعتبرون من أصدقاء أمريكا.
بناءً على هذا، وعكس ما يقال، يبدو أن هذا التنصت لم يكن منصبا على الإرهاب، أو على مصادر الجرائم الممنهجة، بل كان يُجرى لهدف أكبر ولنطاق أوسع، وذلك للحفاظ على السيطرة الأمريكية على العالم كله، ومن أجل ذلك على الحكومة الأمريكية أن تعرف ما يدور بخلد زعماء العالم.
تنصت الهواتف مخالفة للحقوق الدولية
بعد أحداث 11 من سبتمبر، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية، من مكافحة الإرهاب ذريعة، ونقضت بها الحقوق الدولية، وقدمت بأعمالها تعريفا سلطويا لتلك المعايير.
إن “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، وهو يُعتبر في ظاهر الأمر دستورا مقدسا للديمقراطية الغربية، وفي كثير من الأحيان تُستخدم من قبل أمريكا في مجال حقوق الإنسان، كمعيار في تمييز حسن الدول من قبحها، يقول في المادة 12 منه: “لا ينبغي أن يتعرض أحد في حياته الخاصة، أو في أسرته، أو في مسكنه، أو في مراسلاته، للتدخل العشوائي، ولا أن يتعرض اسمه وشخصيته للهجوم، ولكل حق الحماية تجاه هذه التدخلات والهجمات”.
ويؤيد “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” هذا المفهوم أيضا. هذا العهد واحد من تعهدات منظمة الأمم المتحدة، وهو مبني على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد أصبح سائر المفعول منذ 22 مارس/آذار 1976م. ويأتي في المادة 17 منه ما يلي:
- لا ينبغي أن يتعرض أحد في حياته الخاصة، أو في أسرته، أو في مسكنه، أو في مراسلاته، للتدخل العشوائي، -دون إجازة قانونية-، ولا ينبغي أن يتعرض اسمه وشخصيته للهجوم غير القانوني.
- وكل من تعرض لمثل هذه التدخلات والهجمات، فله على القانون حق الحماية.
وتختلف المادة 17 من العهد، مع المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في أن مادة العهد تذكر “الهجوم غير القانوني”، وهذا بنفسه اعتراف بالتدخلات القانونية، وإذا كانت مؤسسة حكومية تباشر هذا العمل لأسباب، فعليها أن تحصل على الإذن من المؤسسات القضائية، ولا يحق لها أبدا أن تتدخل دون إذن قانوني.
وتضيف الفقرة الثانية من المادة 18 في حقوق الإنسان الإسلامي:
ب- لكل إنسان حق الحرية في حياته الذاتية (مسكنه، أسرته، ماله، وعلاقاته)، وإن التجسس عليه، ومراقبته، والنيل من شخصيته، لا يجوز، وله حق الحماية فيما وقع له شيء من التدخل الإجباري في هذه الشؤون.
أثناء الحرب الباردة
أثناء الحرب الباردة كانت أمريكا تستغل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كحربة قوية في مواجهة الصين وروسيا وأقمارها الاصطناعية، وكانت تنتقد هذه الدول بحجة القيود المفروضة على أتباعها وخصوصا في مجال العلاقات. عام 1977م، وفي المجمع الدولي للحقوقيين، في مدينة “ستوكهولم”، بمملكة السويد، أكّدت أمريكا مرة أخرى على احترام الكرامة الإنسانية، وصرحت بأن تكون لأي إنسان حق الحماية القانونية تجاه التدخلات والهجمات التالية:
- أي تدخل في الحياة الذاتية أو حياة الأسرة أو الداخلية.
- أي هجوم على سلامة الجسم أو الروح أو على الحرية الأخلاقية أو المعنوية.
- أي هجوم على شخصيته وشهرته.
- أي تأويل مضر وسيّء لأقواله وأعماله.
- الكشف غير المناسب لأمور مقلقة، من حياته الذاتية.
- استغلال اسمه، وهويته وصورته.
- أي نشاط بهدف التجسس عليه.
- ترصده، ومراقبته، والتضييق عليه.
- كشف معلومات قدّمها أو حصل عليها، خلافا لقاعدة حفظ الأسرار في مجال العمل أو المهنة.
نقض المواثيق الدولية
إن المواثيق الدولية كثيرا ما تبين الأُطُر الأخلاقية للعمل، وتبقى ضمانها العملي في حوزة الدول. أمريكا تستطيع أن تضع ضغوطا وقيودا اقتصادية على الدول الأخرى بسبب نقض هذه المواثيق، ولكن الدول الأخرى لا تستطيع أن تضع على أمريكا الضغط المماثل. وعلى سبيل المثال، بعد كشف تنصت أمريكا لهاتف رئيسة وزراء ألمانيا، أبدت الأخيرة بعدم رضا ومن ثم قبلت مجبرة، بتوضيحات أمريكا غير الموجهة بهذا الخصوص.
التنصت في أفغانستان
كشف “سنودن” الكاشف لأسرار “سي آي آيه”، أن أفغانستان دولة يتم التنصت على هواتف جميع أتباعها. وبناءً على ذلك يمكن القول إن حقوق أتباع أفغانستان ضُيعت أكثر من غيرهم، والحال أن المادة 37 من الدستور الأفغاني تقول:
إن حرية وسرية مراسلات الأشخاص ومخابراتهم، سواء أكانت مكتوبة أو بالهاتف، أو التلغراف، أو أية وسيلة أخرى، مصؤنة من الكشف.
لا يحق للحكومة تفتيش مراسلات الأفراد ومخابراتهم، إلا على أساس القانون.
نفهم من هذه المادة، أنه لو كانت هناك ضرورة لمراقبة هواتف الأفراد، فإن المؤسسات المعنية فقط، وبإذن مسبق من مؤسسات القضاء، يمكنها أن تفعل ذلك، وليس الأفراد أو المؤسسات غير الحكومية. وإذا مارست أية دولة أجنبية هذا العمل، فهو يعني هتك الدستور ونقض السيادة الوطنية لأفغانستان.
النهاية