في القرن التاسع عشر استولت الامبراطورية الروسية على جزء كبير من آسيا الوسطى، ووصلت حدودها عام 1878م، إلى نهر جيحون. ومن جهة أخرى، كانت الهند تحت سيطرة الامبراطورية البريطانية وكذلك وقفت الامبراطوريتان وجها لوجه في آسيا الوسطى وفي أفغانستان وسُمّيت المنافسة بـ”اللعبة الكبيرة”.
وفي الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية قام “لينين”، و”ترستكي”، بثورة شيوعية في روسيا. ومن هذا المنطلق يرى بعض المحللين إلى هذه الحادثة، “الثورة الشيوعية”، كبداية للحرب الباردة بين روسيا والغرب، لأن هذه الثورة ظهرت كمنافِسة جادة للغرب وللرأسمالية الغربية، ولذلك لم تتعهد حكومة الثورة في روسيا بسداد ما كان لأمريكا على الامبراطورية الروسية، وقامت أمريكا كردة فعل على ذلك وعلى مواقف روسية أخرى عام 1917م، بتعليق العلاقة مع حكومة الثورة.
وفي أعوام 1929م، و1933م، هزت أكبر أزمة اقتصادية أمريكا، وشلت الاقتصاد الأمريكي إلى حد كبير، وسُميت بـ”القلق الكبير”. وإضافة إلى ذلك ظهرت اليابان كقوة إقليمية في المنطقة، وتحدت المصالحة الأمريكية، إلى أن أحس “روزفيلت”، الرئيس الأمريكي عام 1933م، بضرورة الاعتراف بحكومة روسيا، كي تؤلبها من جهة على اليابان ومن جهة أخرى تكسب مصالح اقتصادية في روسيا.
وهذه العلاقات الروسية الأمريكية تأثرت مرة أخرى عام 1939م، بسبب الاتفاقية النازية الروسية للدفاع وعدم الهجوم، ولكن عندما هاجم هتلر على روسيا وقف الروس بجنب دول التحالف. إلا أن هذه العلاقة أيضا لم تدم، وعلى أعقاب الحرب العالمية الثانية حدثت خلافات بين ستالين، وشرشيل وروزفيلت على صياغة النظام العالمي المستقبلي وعلى تقاسم المناطق، وهذه الخلافات سُميت بعد الحرب العالمية بحرب باردة. وهذه الحرب الباردة استمرت حتى عام 1919م، وقسّمت السياسة العالمية إلى قطبَيْن.
انتهى دور القطب الواحد!
عام 1979م، كان عاما حاسما للحرب الباردة، لأن الشيوعيين تحدوا في هذا العام المصالح الأمريكية في دول كثيرة، ومن جهة أخرى هاجمت روسيا الأم المنظرة للفكر الشيوعي على أفغانستان، وحصلت أمريكا على فرصة لأخذ ثأر فيتنام من روسيا.
بسبب الجهاد الأفغاني والمساعدات الدولية مع المجاهدين الأفغان، انهزم الروس في أفغانستان، وانهارت الامبراطورية الروسية عام 1991م. وانتهت بذلك الحرب الباردة أيضا، وخرجت أمريكا كقوة عالمية عظمى لتقود عالم ما بعد الحرب الباردة.
وفي عام 2001م، أسست الصين مع روسيا، “منظمة شانغهاي للتعاون”، من أجل التصدي للهيمنة الأمريكية، ولكنها لم تحسم الأمر مع أمريكا حتى عام 2009م. وقفت الصين وروسيا بجانب أمريكا في هجومها على أفغانستان، ولكنهما تذبذبتا في العراق.
وتغيرت هذه الحالة على إثر هجوم روسيا على جورجيا، عام 2008م، وتحدت لأول مرة هيمنة أمريكا الوحيدة على العالم، وفي خطوة أخرى رفضت روسيا مع الصين (قرارين) في مجلس الأمن بشأن سوريا قدم بهما الغرب، واحد كان يخص وضع تعزيرات على الاقتصاد السوري وآخر يخص الهجوم على سوريا.
ولكن ملف أوكرانيا أظهر للجميع بأن العالم قد ولّى زمن القطب الواحد، وأن أمريكا لم تعد القوة العالمية الوحيدة. إضافة إلى ذلك دخلت روسيا في حلف اقتصادي مع قوى اقتصادية كالصين، والهند، وإفريقا الجنوبية، وبرازيل، وتأسست بذلك منظمة “بريكس”، التي هددت كثير من الأنظمة السياسية العالمية، ولذلك ترى روسيا والصين إلى “البنك العالمي”، بعين الريبة.
لاعبون قدماء، لعبة جديدة، وأفغانستان
إن رفض قرار مجلس الأمن، ومن ثم أحداث أوكرانيا تثبت، بأن العالم سوف يجرب حربا باردة أخرى. ستكون روسيا بجنب الصين، وستكون اليابان وأوروبّا الغربية مع أمريكا. وستميل دول أمريكا الجنوبية إلى الموقف الروسي، وستكون آسيا الوسطى ميدان هذه المعركة.
وسيكون الحياد في مصلحة أفغانستان، كي تحافظ على صلة حسنة مع جيرانها التي تنافسها. وعلى سبيل المثال ينبغي لأفغانستان أن تراعي التوازن في علاقاتها مع باكستان والهند، والصين والهند، ومع أمريكا والصين وروسيا.
دخول الروس إلى أفغانستان من جديد
وأثناء الحرب الباردة أشعل الروس في أفغانستان نارا، أحرقت الأفغان والروس معا. وحتى الآن يعاني الشعب الأفغاني من ويلات تلك الحرب، ويواجه أزمات سببها الروس.
وبعد عقد من الاحتلال غادر الروس أفغانستان، وانكمشت بذلك الامبراطورية الروسية. وفور فوز المجاهدين وبوساطة إيرانية دعت الحكومة الروسية بعض المجاهدين وفيهم الأستاذ رباني إلى موسكو، وبعد ذلك أطلقت “الجمعية الإسلامية”، سراح جندي روسي كانت أسرته أثناء الجهاد. ومن هناك أصبحت العلاقات بين الطرفين قوية وتوجهت نجو تحسن.
وفي البداية كان الروس لا يهتمون بأفغانستان، ولكن بعد ظهور طالبان في الساحة، قلقت روسيا بشأن وصول التطرف وتهريب المخدرات إلى آسيا الوسطى، ولذلك قامت بجانب الهند وإيران بدعم “اتحاد الشمال”، بزعامة “أحمد شاه مسعود، والأستاذ رباني”.
وعندما كانت روسيا تدعم “اتحاد الشمال”، ضد إمارة طالبان، اضطرت طالبان على توفير الملاذ لطاهر يولداش زعيم الحركة الإسلامية في أزبكستان مع رفاقه، وبعده في عام 2000م، اعترفت بحكومة بوسنيا، وسمحت لها بفتح سفارة في كابول أيضا.
وهذا الموقف من قبل طالبان أجبر روسيا على التوجه نحو محادثات مع طالبان. وبناءً على ذلك بدأ ضمير كابلوف نيابة عن الروس محادثات مع طالبان، أسفرت عن قبول روسيا بأن لا تدعم “اتحاد الشمال”، ولكن برأي وحيد مزده، محلل أفغاني والذي كانت في تلك الفترة مسؤولا عن قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأفغانية، ضيّعت طالبان تلك الفرصة[1].
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وقفت روسيا ومعها الصين إلى جانب الهجوم الأمريكي لثلاثة أسباب:
أولا: قلق الصين وروسيا من انتشار التطرف في آسيا الوسطى، وفي إقليم “شينغيانغ”، لأنه وفي فترة حكم طالبان كانت تتواجد في أفغانستان مجموعات متطرفة وكانت لها صلات مع آسيا الوسطى وإقليم “شينغيانغ”.
ثانيا: كانت روسيا والصين تريان إلى انتشار المخدرات كعمل من قبل طالبان، وهو أمر أضر بروسيا والصين كثيرا، وأخذت من ميزانيتهما الكثير. ومن جهة أخرى كانت ترى روسيا والصين بأن ربح تهريب المخدرات تموّل المجموعات المتطرفة.
ثالثا: أحداث 11 سبتمبر أوقفت كثيرا من الدول بجانب أمريكا، وكان العالم جميعا يواسي الرأي الأمريكي، ومن جهة أخرى كانت أمريكا القوة العالمية العظمى الوحيدة، فبشكل عام وبسبب هذه العوامل ساعدت الصين وروسيا الموقف الأمريكي.
فالإجابة عن تحرك العلاقات الأفغانية الروسية مرة أخرى تكمن في عامَيْ 2008م، و2009م. عام 2008م، أصبح أوباما رئيسا لأمريكا، وفي 2009م، وعلى إثر انتخابات متنازعة فيها بقي حامد كرزاي رئيسا لأفغانستان. وقد تدخلت أمريكا في هذه الانتخابات كثيرا، إذ جائت تفاصيل ذلك في كتاب “رابرت غيتس”، وكتاب “كا آي دي”. بعد أن تدخلت أوباما وهالبروك في تلك الانتخابات تغيرت سياسة حامد كرزاي وبعث رسالة إلى “ميدويدوف”، في روسيا، وبعدها سافر إلى روسيا والصين. ومن هنا بدأت رغبة في أفغانستان تجاه العلاقة مع روسيا، وقد عُفيت عن أفغانستان قروض كان النظام الشيوعي أخذها من روسيا[2].
وبعد أن أحست موسكو بأهمية دورها في أفغانستان بعثت سفيرها الجديد “الكسندر منتسكي”، إلى كابول، وهو من عمل سفيرا لروسيا في باكستان، والهند، وبيبال، وكان دبلوماسيا للاتحاد السوفيتي عام 1984م. وفور وصوله إلى أفغانستان صرّح بأن روسيا تريد إكمال ما تبقى من مشروعه في هذا البلد.
آسيا الوسطى… ميدان معارك القرن الحادي والعشرين!
يرى جوزيف ناي المحلل الأمريكي المشهور بأن “القوة المرنة”، تترك في القرن الحادي والعشرين أمريكا وتتجه نحو آسيا. وهذا ليس كلاما من الأحلام بل هي حقيقة أرضية مبنية على أرقام وإحصاءات بشأن اقتصاد دول آسيا أجبرت الرجل على التفوه بهذا الكلام.
وعلى حد تعبير هذا المحلل سوف تلعب ست دول آسيوية (الصين، الهند، روسيا، اليابان، تركيا، ودول الخليج)، دورا حيويا في مستقبل العالم. وهناك خلافات بين هذه الدول والتي تجبر بعضها مثل (الهند واليابان) على الاقتراب من أمريكا والغرب.
إلى جانب ذلك، تصبح آسيا الوسطى والتي لها حدود مع روسيا، والصين، وإيران، وأوروبّا، ميدانا للمنافسات القادمة. والسبب وراء ذلك هو الذخائر الطبيعية التي تتمتع بها هذه المنطقة، والعطش الدولي للقوة، ومكانة المنطقة الاستراتيجية، وهي مكانة قال بشأنها “ميكلندر” الجغرافي البريطاني، قبل مئة عام بأن من يملك هذه المنطقة يملك العالم.
وفي عام 1998م، كتب “برجنسكي”، عالم استراتيجيات أمريكي كتابا حول هذا، وحرّض أمريكا على تعزيز مكانتها في هذه المنطقة حفاظا على سيادتها العالمية. النهاية
[1] – راجع كتاب (افغانستان و پنج سال سلطۀ طالبان) أي (أفغانستان وخمسة أعوام من حكم طالبان) لوحيد مزده.
[2] – مع أن هذه القضية تحتاج بحثا طويلا، وهل كانت هذه القروض حقا لأفغانستان وشعبها؟ لأن الشعب كان يقاتل المحتل، والنظام الشيوعي، وكان السوفييت قد احتلوا البلد. وهذه المبالغ التي فاقت (12 مليار دورلار)، كانت لنا عليهم لأن الحرب المفروضة علينا أخذت منا الكثير من الأرواح والأموال.