بعد الحرب العالمية الثانية ولاسيما بعد حصول القوى العالمية العظمى على الأسلحة النووية، كان التصور السائد يقول إن هذه القوى لن تجرؤ على شن حرب عالمية أخرى خوفا من دمار العالم كله. عند ذلك وفي عالم ذي قطبين لم تكن هناك معارك مباشرة بين القوى العظمى وإنما حاولت كل قوة جرّ نظيرتها إلى أزمات دولية وحروب نيابية في دول أخرى كي تسبب لها الخسائر بقدر الإمكان.
تزامنا مع تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، تشكلت اتفاقية غيرمكتوبة بين روسيا والقوى الغربية، كانت تفيد أن تتخلى روسيا عن إدعائها كقوة عظمى بانسحاب قواتها من أوروبّا الشرقية ومن جانب آخر لم يحاول الغرب في البداية أن يتحدى المصالح الروسية في أوروبّا الشرقية وفي نطاق النفوذ الروسي كله. ولكن المنافسة الاقتصادية والثقافية بين روسيا والغرب جعلت شعوب هذه الدول يقررون فوق التحفظات الروسية والغربية. ومن هذه النقطة دخلت أمريكا كمدافعة لما يسمى بالمديقراطية وحرية الشعوب في الانتخاب، وأثارت حساسية روسيا.
لا شك أن العالم اليوم على مسافة عقود كثيرة من عام 1945م، ومن نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا يمكن اعتبار أوروبّا الشرقية ميراثا للاتحاد السوفيتي وداخل نطاق النفوذ الروسي ولكن ماذا ينبعي أن تكون نوعية الموقف الغربي أمام روسيا حتى تنخفض فرص صراعات اكثر؟ إن أحداث أوكرانيا علامة بارزة من الصراع الموجود في العلاقات الأمريكية الغربية وتمثل منعطفا كبيرا على المستوى العالمي.
الآن يبدو أن روسيا رجعت مرة أخرى إلى ميدان المنافسة وتريد التجنيد في صفوف الدول المناوئة لأمريكا. لولا القوة النووية المدمرة لشاهدنا تكرار تجربة حرب عالمية أخرى كي تخرج بعدها قوة قوية واحدة من بين رماد الحرب لتملك خيوط اللعبة، ولكن في عالم اليوم تبدو حرب كهذه بلا فائز وبعيدة عن الامكان.
إن تحرك حلف شمال الأطلسي “الناتو” نحو الشرق كان تحديا كبيرا لروسيا، ولم ينشأ حينها عدم رد الأخيرة على الناتو من إهمالها بل نشأ من ضعفها، والآن وبعد صعودها على المستوى العالمي تريد روسيا إعادة نفوذها في المنطقة ولا تملك أمريكا قدرة كبيرة لمواجهة الموانع الروسية.
إن الحاق القرم بروسيا أثرت سلبا على العلاقات الروسية الغربية وقد وضعت القوى الغربية عقوبات على روسيا. مع أن الروس حاولوا كثيرا بالاتصال مع الجانب الأمريكي ليقلصوا فرص تدهور العلاقات، إلا أن الوضع لايبدو راجعا إلى العادي. خصوصا والمسؤولون الأوكرانيون يتهمون الروس بأكثر من التدخل في أمور أوكرانيا ويتهمونهم بهجوم عسكري على بلدهم.
يرى المراقبون السياسيون بأن أمريكا تحتاج للدعم الروسي في مواجهة التحديات العالمية. وكذلك تحتاج أمريكا دعم روسيا في استغلال موارد القطب الشمالي، وفي مجال أبحاث الفضاء ومواجهة تحديات البيئة.
من جانب آخر فإن تجريد روسيا من قبل الغرب يسبب توجه روسيا نحو الشرق وهذا أمر يهدد المصالح الأمريكية في آسيا. تدرك أمريكا أن العالم سائر نحو تغيير في آسيا وأن هذه القارة ستعلب دورا كبيرا في المعاملات الدولية. بناءً على ذلك فإن دفع روسيا نحو الشرق وخصوصا الصين من شأنه أن يهدد المصالح الأمريكية في آسيا. تحاول روسيا تعزيز المنظمات الإقليمية مثل بريكس، ومنظمة شانغهاي للتعاون، ومنظمة الاتفاقية الأمنية، ومعاهدة فرساي وتريد أن تجد في السوق الشرقي طلبا لموارد القوة لديها. هذا الأمر سيضع ضغوطا أكثر على أوروبّا من باب قلة موارد القوة.
إن أمريكا وضعت عقوبات على موسكو ولكنه معلوم جدا أن روسيا اليوم ليست روسيا مرحلة ما بعد السقوط السوفيتي، وقد تغير العالم كثيرا من عالم التسعينيات، والقوة الأمريكية اليوم إلى الزوال. أثبتت الحرب على أفغانستان والعراق بأن القوة التي كانت تدعي قيادة العالم فشلت في حل أزمات عالمية. والدليل على ذلك أن أمريكا تبحث عن حل أية مشكلة على المستوى العالمي في نطاق مصالحها العليا والإستراتيجية.
بناءً على هذا فإن أمريكا مضطرة أن تتراجع شيئا في قضية أوكرانيا من أمام روسيا، لأنها تدرك أن هذه القضية تثبت فقط الضعف الأمريكي كقوة عالمية كبيرة في حل المشاكل على المستوى العالمي، أمر حدث من قبل في سوريا وكان الموقف الأمريكي فيها ضعيفا جدا أمام الموقف الإيراني والروسي الداعم لنظام الأسد.
ولكن الأزمة الأوكرانية ستوفر لأمريكا فرصة لتجنيد نفوذ أمريكي أكثر في أوروبّا الشرقية وحتى فرصة لإرسال الأسحلة إليها. في وقت لم يكن “الناتو” فائزا في مهمته في أفغانستان وفي وقت تظهر خلافات بين أعضاء هذه المنظمة العسكرية، يمكن للخوف من روسيا أن توفر وسيلة لتنشيط “الناتو” من جديد.
في مثل هذه الظروف لا توجد إمكانية حرب بين أمريكا وروسيا على أوكرانيا، حتى يمكن لأمريكا أن تقبل طلب روسيا بخصوص النظام الفدرالي في أوكرانيا ولكن التوجه الروسي نحو الشرق للتخلص من العقوبات الغربية فمن شأنها أن تحدث تغييرا في آسيا.
يمكن أن يكون هذا أحد الأمور لخلق مشكلة لروسيا في آسيا الوسطى. مع أنه وبعد الانهيار السوفيتي لم تبق آسيا الوسطى جزءا من روسيا ولكن الروس لا زالوا ينظرون إلى الحدود الجنوبية كحدود للقوة الروسية. تحاول أمريكا أن توسع نفوذها في هذه المنطقة، وفي إدانة روسيا إثر الحاق جزيرة القرم بروسيا امتنعت كازاخستان وقرغيزستان من التصويت في الأمم المتحدة. يمكن لهذه القضية أن تشكل أملا لدى الإدارة الأمريكية في أن تسد طرق اتحاد هذه الدول مع روسيا أو ترفع الثمن إلى حد لا يمكن لروسيا دفعه.
الاضطرابات الأمنية في أفغانستان كبؤرة تهديد لروسيا في الجنوب، يمكن أن تثبت ثقيلة على كواهل الروس ويمكن أن تدمر أحلام كريملين بخصوص تحوله إلى القوة العظمى. ولذلك فإن أمام روسيا فرصة ضيقة لتجديد سياستها في آسيا وإلا فالزمان لا ينتظرها.