كان فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية التركية في 1 من نوفمبر غير متوقع لكثير من المراقبين على المستوى العالمي. ففي الانتخابات التركية الماضية قبل خمسة أشهر لم يتمكن الحزب من حصد غالبية الأصوات كي يؤهّله لتشكيل الحكومة منفردا، وكان عليه الائتلاف مع الأحزاب الأخرى لتشكيل الحكومة. لكن محاولات تشكيل الحكومة الائتلافية لم تجد نفعا، فاستقر الأمر بناءً على الدستور التركي على إجراء انتخابات مبكرة.
قبل هذه الانتخابات كانت الآراء ترمي وخاصة في الدول الغربية إلى أن الانتخابات القادمة لن تتغير نتائجها عن السابقة. وأن أي حزب لا يمكنه الفوز بغالبية الأصوات لينفرد بتشكيل الحكومة، مما سيُبقي تركيا في أزمة سياسية من أجل تشكيل الحكومة.
الأحزاب المشاركة في الانتخابات
54 مليون من الشعب التركي مؤهلون للتصويت وذلك لاختيار 550 نائبا للبرلمان التركي، وينص الدستور التركي بأن أي حزب لا يحصل على 10% من الأصوات لا يدخل البرلمان، وتُمنح كراسيه للحزب المتقدم. في الانتخابات التي جرت في 7 من يوليو 2015م، شاركت 16 حزبا سياسيا، وتجاوزت أربعة منها 10% من الأصوات وحصلت على كراسي في البرلمان.
أقوى حزب سياسي في الساحة السياسية هو حزب العدالة والتنمية، ويحكم تركيا منذ 2002م. استطاع الحزب بوعود تحسين الأوضاع الاقتصادية أن يملك زمام الأمور وهو حزب إسلامي. تمكن الحزب في إطار النظام التركي العلماني إذ يفصل بين الدين والدولة بأن يثبت لنفسه تواجدا رغم الأخطار الجثيمة. لقد نفّذ الحزب كل وعوده للشعب، وحوّل تركيا من بلد غير مستقر اقتصاديا وأمنيا إلى بلد مزدهر ومستقر.
وكان حزب الشعب الديمقراطي من أقدم الأحزاب السياسية التركية وحكم البلد منفردا في فترات من الزمن.
أما حزب الحركة القومية، حزب ذو توجهات قومية وإسلامية إلى حد ما، وقد أيّد أحيانا خطوات حزب العدالة والتنمية.
حزب الشعوب الديمقراطي القومي أيضا من أهم الأحزاب التركية وله نشاط في الأوساط الكردية والقوميين، وفي المدن الكبيرة.
الانتخابات الماضية
في انتخابات 7 من يوليو، حصد حزب العدالة والتنمية 40.87% من الأصوات، و258 كرسيا في البرلمان، ولم يتمكن من تشكيل الحكومة منفردا.
جاء في المرتبة الثانية حزب الشعب الديمقراطي بحصده 24.95% من الأصوات، وحصل على 132 كرسيا في البرلمان. وحصل حزب الحركة القومية على 16.29% من الأصوات، وعلى 80 كرسيا في البرلمان، وفي الدرجة الرابعة كان الحزب الكردي باسم حزب الشعوب الديمقراطي، بالحصول على 80 كرسيا و13.12% من الأصوات. وكانت تلك أول مرة يتجاوز حزب كردي 10% من الأصوات ويحتل مقعدا في البرلمان.
الجدول الأول: الانتخابات البرلمانية التركية في المرة الأولى:
تغيير في الجولة الثانية
بعد أن لم يتمكن حزب العدالة والتنمية بـ258 مقعدا برلمانيا تشكيل الحكومة منفردا، ولم تسفر المحادثات من أجل تشكيل الحكومة الائتلافية أي نتيجة، أصدر رجب طيّب أوردوغان مؤسس حزب العدالة والتنمية قرارا بتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات مبكرة. وقد غيّرت الانتخابات في الجولة الثانية المسرح السياسي تماما، واستطاع حزب العدالة والتنمية اكستاح الانتخابات بأغلبية مقاعد البرلمان.
ففي هذه الانتخابات حصد حزب العدالة والتنمية 49.36% من الأصوات و316 مقعدا في البرلمان، ليؤهل داؤد أوغلو رئيس الحزب لتشكيل الحكومة منفردا. جاء حزب الشعب الديمقراطي بزعامة كمال قليشدار أوغلو في الدرجة الثانية بالحصول على 25.43% من الأصوات و134 مقعدا في البرلمان. وأما حزب الشعوب الديمقراطي بزعامة صلاح الدين ديميرتاش وهو مؤيد من قبل الأكراد ويُعتبر الذراع السياسي لـ(بي كي كي)، فقد تراجع كثيرا ووصل عدد مقاعده من 80، إلى 21 مقعدا، وبالكاد حصل على 10.65% من الأصوات ليؤهله دخول البرلمان.
كانت هزيمة حزب الحركة القومية من الأحداث اللافتة في الانتخابات. فبعد انتخابات 7 من يوليو، كان حزب العدالة والتنمية يريد أن يشكل حكومة ائتلافية مع هذا الحزب، لكن الحزب اشترط أمورا صعبة للائتلاف، لم يقبلها حزب العدالة والتنمية، وفي الانتخابات الأخيرة حصل حزب العدالة والتنمية على 36 معقدا من مجموع 80 مقعدا للحركة القومية.
وبشكل عام تظهر نتائج الانتخابات في الاول من نوفمبر، بمشاركة 16 حزبا و 21 مرشحا مستقلا، فوزا كبيرا لحزب العدالة والتنمية ورجب طيّب أوردوغان الرئيس التركي. ويُعتبر حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطية من مهزومي الانتخابات.
الجدول الثاني: الانتخابات البرلمانية التركية، في الجولة الثانية:
عوامل فوز حزب العدالة والتنمية
يمكن أن نسرد عوامل فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، باختصار كالتالي:
- الأمن والاقتصاد
وكان لقلق الشعب التركي تجاه التحديات الأمنية والاقتصادية دور بارز في الفوز الأخير لحزب العدالة والتنمية. وفي الفترة ما بين انتخابات يوليو ونوفمبر، شهدت تركيا أحداثا دامية وتصاعدت وتيرة العنف داخل البلد، وانتهت مهلة الهدنة مع حزب (بي كي كي)، وتراجعت العملة التركية أمام العملات الأجنبية، إضافة إلى أزمة اللاجئين الذين يعبرون تركيا إلى أوروبّا.
ومن المنظار الأمني واجهت تركيا تحديات أمنية كثيرة. لقد أثرت الأوضاع السورية على تركيا، وفي الداخل التركي حدثت أحداث مما سبب مصدر قلق للأتراك تجاه المستقبل. ومن هنا يقول معارضو أوردوغان إن الحكومة عمدت إلى خلق أوضاع اقتصادية وأمنية سيئة طيلة خمسة أشهر الماضية لتخويف الشعب، وكنتيجة له صوّت الشعب خوفا لحزب العدالة والتنمية. لكن حكومة حزب العدالة والتنمية أظهرت جدارته في التعامل مع الاضطرابات الأمنية، وفي إِشارة إلى المواجهة بين الجيش التركي والقوات الكردية، قال أوردوغان الرئيس التركي قبيل الانتخابات الأخيرة إن حصول العدالة والتنمية على غالبية مقاعد البرلمان هو الخيار الوحيد الذي سيحقق آمال الناخبين بعودة الاستقرار إلى البلد.
إن الدخل التركي من السياحة وهو جزء كبير من الدخل التركي أيضا يعوّل على الوضع الأمني. وفي تركيا يشكل الدخل من السياحة في قطاعين 32%، و51%، من الدخل العام، ولهما أوضاع حسّاسة جدا. منذ عام 2006م، ارتفعت أرقام الدخل السياحي. في عام 2006م، زار 18 مليون سائح تركيا، وفي عام 2014م، بلغ العدد 41 مليون، لكن عام 2015م، تراجع العدد كثيرا جرّاء تدهور الوضع الأمني.
- الخطة الواضحة
تظهر الدراسات أن حزب العدالة والتنمية وبإظهار برنامج عملي واضح في مجالات اقتصادية وأمنية استطاع أن يحصل على غالبية الأصوات في 80 ولاية من 81 ولاية تركية، مقارنة مع الانتخابات الماضية، وخلافا للمتوقع حصل الحزب على تفوق في ولايات يقطنها الأكراد جنوب وجنوب شرق البلد. ربما هو الذي أحدث تغييرا مفاجيئا في نتائج الانتخابات، لأن المراقبين لم يتوقعوا أن يصوّت الأكراد لصالح العدالة والتنمية وهو ما حدث فعلا. ففي الحقيقة لم يقدم أي من الأحزاب برنامجا واضحا للخروج من الأوضاع الحالية الحرجة.
- الحملات الانتخابية
كرّس حزب العدالة والتنمية هذه المرة جهودا جبّارة في الحملات الانتخابية. وحتى فيما تم الإعلان بنتائج الانتخابات كان زعماء الحزب خارج مكاتبهم، ومتواجدين في الدوائر الانتخابية.
- هجمات “بي كي كي”
وسببت عمليات حزب العمال الكردستاني وعمليات الحكومة المضادة أن الناخبين لم يصوّتوا لحزب الشعوب الديمقراطي للأكراد، لأن الكثيرين في تركيا يعتبرون الحزب جناحا سياسيا لــ”بي كي كي”، وتراجعت مقاعد الحزب من 80 مقعدا إلى 59 مقعدا. ومن جهة أخرى سبب تقارب المعارضة الكردية من إيران وأمريكا أن الأكراد الإسلاميين الذين صوّتوا في الانتخابات الماضية لصالح حزب الشعوب الديمقراطي، صوّتوا المرة الأخيرة لحزب العدالة والتنمية.
- الخوف من الحكومة الائتلافية
للشعب التركي تجارب مُرّة مع الحكومات الائتلافية، وشهد من قبل أثر الخلافات الداخلية لهذه الحكومات وكيف يمنعها ذلك من خدمة الشعب. من هنا مال نحو الاستقرار السياسي ورجّح أن يتولى حزب العدالة والتنمية زمام الأمور. وبذلك صوّت عدد من القوميين من مؤيدي حزب الحركة القومية لحزب العدالة والتنمية في المرة الأخيرة.
أثر فوز حزب العدالة والتنمية على الأوضاع التركية
ليست هناك أي توقعات لإجراء تعديلات واسعة في المجال السياسي للحكومة الجديدة، ومع ذلك يمكن أن نلخّص ما سيترتب على فوز حزب العدالة والتنمية في الأمور الآتية:
- تعديل دستوري
أي حزب ينوي إجراء تعديل دستوري في تركيا، ينبغي أن يكون له 330 مقعدا في برلمان. مع أن حزب العدالة والتنمية لم يحصل على العدد الكافي من المقاعد لإجراء استفتاء لتعديل الدستور وإسناد صلاحيات أكثر للرئيس التركي كما أراده أوردوغان، لكنه أصر في أول كلمة له أمام البرلمان على ضرورة إجراء تعديل دستوري. يريد أوردوغان تغيير النظام من البرلماني إلى الرئاسي. ومن هنا إذا استطاع حزبه بأن يحصل على دعم الأحزاب الأخرى أو النواب المستقلين، فإن ذلك سيؤهله لتعديل الدستور وإجراء استفتاء عليه.
- سياسة الحرب ضد “بي كي كي”
تتبنى الحكومة الجديدة سياسة حرب ضد “بي كي كي”، أو حزب العمال الكردستاني. وقال أوردوغان في كلمته إنه يستمر في قتال “بي كي كي”، إلى أن يترك الحزب السلاح.
أظهرت هذه الانتخابات نقطة أخرى ذات أهمية في المستقبل السياسي التركي، وهو أن الأكراد في الماضي كانوا يدعمون “بي كي كي”، في كل التوجهات لحربها مع الحكومة، لكن الإسلاميين الأكراد ظهروا الآن في طريقهم نحو الابتعاد من “بي كي كي”، ومن العنف الذي لا يجدي خيرا لهم، ويريدون الآن التعامل مع الحكومة من أجل ضمانة حقوق الأكراد. وهي فرصة كبيرة لأوردوغان بأن يحل أزمة القتال الجارية منذ عشر سنوات مع الأكراد، وهي ما خلقت تحديات أمنية كثيرة لتركيا.
أثر فوز حزب العدالة والتنمية على المنطقة
أزمة اللاجئين، واستمرار الحرب الأهلية السورية، وضرورة المكافحة مع داعش، إلى جانب الملفات الداخلية، كلها قضايا زادت من أهمية الانتخابات التركية على المتسوى العالمي، وعلى مستوى القوى الأجنبية ودول الجيران. بالنظر إلى مكانة حزب العدالة والتنمية، سيكون لفوز هذا الحزب في الانتخابات التركية أثر على دول المنطقة والعالم.
العالم الإسلامي: إذا استطاع الحزب تعديل الدستور من أجل تفويض صلاحيات أكبر للرئيس، ستكون هناك دولة قوية ذات توجهات إسلامية، ومؤثرة على العالم وعلى العالم الإسلامي خاصة. من جهة أخرى ستدخل الحكومة التركية في مواجهة جادة مع تنظيم داعش الذي وُجد على إثر تغييرات سياسية في العالم العربي، لأن التنظيم نفّذ أخيرا هجمات دامية داخل تركيا.
سوريا والعراق: هناك قلق في الأوساط التركية بشأن الحدود الطويلة بين سوريا وتركيا، وبشأن اللاجئين السوريين، وتوسع الاضطرابات الأمنية من سوريا إلى تركيا. لذلك ستضع الحكومة الجديدة ضغوطا على الدول المشاركة في الأزمة السورية والعراقية، كي تنتهي الحرب في المنطقة. ومن هنا وبعد فوز حزبه في الانتخابات تحدث الرئيس التركي مع بوتين الرئيس الروسي حول الأزمة السورية.
أفغانستان: سيكون هناك أثر إيجابي لفوز حزب العدالة والتنمية على الأوضاع الأفغانية، لأن تركيا ومنذ أكثر من عقد مضى كان يؤيد توجهات السلام والاستقرار لأفغانستان. حاولت الحكومة التركية بأن تتحسن العلاقات الأفغانية مع الدول الجارة وخاصة مع باكستان التي لها دور حيوي في عملية السلام الأفغانية. بدأت عام 2007م، في أنقرة “عملية سلام إسطنبول لأفغانستان”، بين أفغانستان وباكستان، جرت ثلاث جلسات ثلاثية لهذه العملية إلى عام 2013م. وفي هذه الجلسات كانت مناقشات تجري من أجل رفع الخلاف في الآراء بين أفغانستان وباكستان، ومن أجل تعاون مشترك بين الدول الثلاث، وبشأن عملية السلام الأفغانية، كلها بوساطة تركية. ومن جهة أخرى نهج المخالفون المسلحون في أفغانستان سياسة مرونة مع تركيا من بين دول أعضاء الناتو المتواجدة في أفغانستان، ويمكن لتركيا أن تلعب دورا إيجابيا في عملية السلام الأفغانية.
النهاية