بداية الاضطرابات
إن النظام السياسي في باكستان هو نظام فدرالي، وقد فاز في انتخابات عام ۲۰۱۳م، حزب رابطة المسلمين، جناح نواز شريف بحكومة إقليم بنجاب، فيما فاز حركة إنصاف بزعامة عمران خان بحكومة خيبربختون خواه. وبعد ذلك أقبل حزب الرابطة على تشكيل حكومة بشراكة سياسية مع “جمعية علماء الإسلام” لفضل الرحمن، ومع جهات سياسية أخرى. ومن جانبها شكلت حركة إنصاف حكومة بالمشاركة مع الجماعة الإسلامية، وفي البرلمان حصل حزب رابطة المسلمين على أغلبية الأصوات وصار زعيمه نواز شريف رئيسا للوزراء في باكستان.
وتصل جذور هذه الاضطرابات الحالية إلى تلك الانتخابات التي أجريت في البرلمان الباكستاني، إذ بقيت حركة إنصاف طيلة ۱۴ شهرا تدعي حدوث التزوير خلال الانتخابات التي فاز فيها نواز شريف. وطلب عمران خان تفتيش الأصوات في أربع حلقات انتخابية، منها حلقة واحدة لنواز شريف، وأما حزب نواز شريف اعتبر أن الانتخابات كانت نزيهة وشفافة بمعايير المراقبين المحليين والدوليين.
إلى جانب ذلك في شهر يونيو/حزيران ۲۰۱۴م، اقتحمت الشرطة الباكستانية في مدينة لاهور، مكتب حركة “منهاج القرآن” التابعة للصوفي السياسي الباكستاني طاهر القادري، ومن ثم أطلقت النار على متظاهرين، لقي ۱۴ منهم مصرعهم وجُرح 84 آخرون. وقد أصبح هذا الحدث الشغل الشاغل للإعلام الباكستاني، وانتشر على نطاق واسع، وظهر دور الشرطة في الحادث جليا، بعدها طلبت حركة منهاج القرآن فتح ملف قضائي استقصائي في المحكمة وهو أمر وقفت الشرطة دونه لبضعة شهور.
لهذه الأسباب وفي ۱۴ من شهر آب/أغسطس الماض، في يوم استقلال البلد، دعى عمران خان وطاهر القادر الشعب إلى التظاهر، ومنذ تلك الفترة تشهد العاصمة الباكستانية اضطرابات سياسية كثيرة، أسفرت حتى الآن عن مقتل مئات من الباكستانيين.
هناك تساؤلات كثيرة بشأن هذه الاضطرابات لم تلق إجابة بعد، ومنها التساؤل عن نتيجة هذه المظاهرات. وكيف ستؤثر هذه الاضطرابات على الوضع السياسي الأفغاني؟
مظاهرة “لونج مارش” حربة المعارضة الأخيرة
يحظى “لونج مارش[1]” بتأثير تاريخي كبير في باكستان وله دور كبير في السياسة الباكستانية، ولقد كان دوما الحربة الأخيرة لدى المعارضة. وهو أسلوب تستغله المعارضة في إثارة الشعب ضد الحكومة وتدعوهم إلى التظاهر، ومن ثم يجتمع المتظاهرون من أماكن مختلفة ويتوجهون نحو العاصمة.
تشكلَ عام ۱۹۷۷م، إئتلاف باكستان الوطني “PNA” ضد حكومة ذوالفقار علي بوتو، وقام بإثارة الشعب ضد الحكومة. حينها كانت للمعارضين مطالب وكانوا يدعون حدوث التزوير في الانتخابات، ونتيجة للأمر خُلع بوتو من الحكومة، وتمت محاكمته لملف قضائي سابق له. وكان بوتو زعيم حزب الشعب، وقد صدر حكم إعدامه بتهمة خيانة البلد، ورغم طلب بعض قادة الدول إعفاءه من الإعدام، نُفّذ الحكم عليه عام ۱۹۷۹م.
وهكذا في العقود الماضية شهدت باكستان كثيرا من مثل هذه المظاهرات التي كان في الأغلب لها تأثير ملحوظ. مظاهرة حزب عمران خان الحالية، والتي يسمونها مظاهرة الاستقلال، بدأت لتجاهل الحكومة مطالب حركة إنصاف بتفتيش الأصوات. وقد أشار شاه محمود قريشي وزير خارجية باكستان الأسبق وعضو حركة إنصاف في البرلمان الباكستاني إلى هذه القضية، وصرح أنهم طلبوا مرات عديدة من الحكومة دراسة التزوير الحادث في الانتخابات، ولكن الحكومة على حد قول السيد قريشي لم ينتبه للأمر ما جعل حركة إنصاف مضطرة للخروج إلى الشارع.
وإلى جانب عمران خان، خرج أتباع حركة طاهر القادري إلى الشارع رافعين شعار “الثورة” وطالبين استقاله نواز شريف رئيس الوزراء، وشهباز شريف زعيم إقليم بنجاب، ذلك لأن القضاء الباكستاني تجاهل ملف قتل أنصار الحركة.
المظاهرات الأخيرة نحو الفوز أم الفشل؟
بعد أن أعلن عمران خان “مظاهرة الاستقلال” انطلق حوله نقاش سياسي حاد. رأى البعض أن عمران خان أقبل على “انتحار سياسي” بهذا الموقف، ويرى الآخرون أنه سوف يبقى إلى آخر اللحظات وسيضيق النطاق على رئيس الوزراء كي يغادر منصبه.
الذين يرون في موقف عمران خان، ضربة سياسية له، يقارنون حالة عمران خان بحرب نابليون في مدينة “واترلو” البلجيكية، التي سببت هزيمة نابليون. وأما البعض الآخرون فيقارنون حالة عمران خان بطارق بن زياد إذ كسّر كل السفن، وجهّز نفسه للمنافسة، ولذلك يرون فوزه أمام نواز شريف.
ولكن يبدو من سياسات عمران خان الأخيرة، أنه مقبل نحو انتحار سياسي. وعلى سبيل المثال إن الهجوم على مقر التلفاز الوطني، وإرسال شاه محمود قريشي لإلقاء الخطاب في البرلمان، وإصراره على استقالة نواز شريف دون أي مطلب آخر، أمور يريد عمران خان من خلالها أن يظهر لأتباعه أن فائز.
وأما مظاهرة “الثورة” للزعيم الديني طاهر القادري، تختلف من مظاهرة “الاستقلال” لعمران خان. إن أتباع طاهر القادري خرجوا إلى الشارع لعدم تقصي ملف قتلى حركتهم من قبل القضاء الباكستاني، ولإجبار الحكومة على محاكمة القتلة، وإلى جانب ذلك يهدفون تغيير النظام السياسي من الفدرالي إلى الرئاسي، ومن أجل هذه الأهداف اختاروا الثورة عنوانا لمظاهرتهم. ولكن يرى المحللون أن الحكومة لا تهتم كثيرا بمظاهرة أتباع طاهر القادري، بل تربطها بمصير مظاهرة عمران خان.
ما وراء المظاهرات
هناك من يرى تدخلا للحلقات الاستخباراتية في مظاهرة عمران خان الأخيرة، ولكن هل هناك يد استخباراتية سرية وراء هذه القوة؟ إن الإجاية عن هذا السؤال في غاية الصعوبة. فإن واحدا من ۱۲ عشر صحفيا التقوا بنواز شريف وهو الصحفي شاه زيب خانزاده يقول: لقد كرر نواز شريف قوله مرارا بأنه يعرف من حرّض هذين الاثنين “عمران خان وطاهر القادري”، ثم جمعهما في لندن وأرسلهما إلى باكستان. يقول هذا الصحفي: طلبنا بإلحاح أن يفصح نواز شريف عمن يقف وراءهما، ولكن دون جدوى.
من جانب آخر، ورغم ما يظهر من شواهد لتواجد أيادي خفية خلف مظاهرة طاهر القادري، لا تظهر دلائلها في مظاهرة عمران خان.
ويمكن لنا القول عموما، وإن توجد هناك قوة خفية خلف الاثنين، إلا أن عدم تفتيش الأصوات المزورة، وقتل المدنيين المتظاهرين في مدينة لاهور، ومن ثم تجاهل القضية قضائيا، أمور لعبت الدور الأبرز إلى جانب عوامل استخباراتية أخرى، في هذه الاضطرابات.
موقف الجيش
يرى بعض المحللين، أن الجيش الباكستاني يميل إلى المتظاهرين. مع أنه لا يمكن التعويل كثيرا على هذا التحليل، إلا أن الرئيس الأسبق زرداري وحزب الشعب اتهما قائدا في الاستخبارات العسكرية، بأنه يقف وراء عمران خان. وفي البداية كان حول هذا الخبر نقاش كبير، انتهى إلى البرودة.
بما أن النقاشات الموجودة حول هذه المظاهرات، وحول ما ومن يقف وراءها تبقى غير معتمدة، فإنها تدور كثيرا حول العوامل الظاهرية. عندما أصبحت الحالة حرجة، التقى طاهر القادري وعمران خان مع قائد الجيش، ولكن إلى الآن تبقى حقيقة ما جرى بينهم طي الكتمان. ومن جانب آخر كثّف نواز شريف لقاءاته مع قائد الجيش، ما يظهر قلقه من جنب الجيش.
وفي الآونة الأخيرة، كان هناك موقف يرمي إلى وساطة الجيش بين الطرفين. وفور ظهور هذا الموقف ارتفعت أصوات مناهضة لتدخل الجيش في السياسة. انتقد عمران خان وطاهر القادري الحكومة، وأما نواز شريف صرح أنه اتخذ هذا الموقف بناءً على رغبة المعارضين. وحينها صرح متحدث باسم الجيش الباكستاني أن اقتراح الوساطة وصل الجيش من قبل الحكومة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل الجيش يجتاز الوساطة إلى الانقلاب أيضا؟ رغم ما صرح الجنرال برويز مشرف بأن أوضاع البلد حاليا تشبه أوضاع عام ۱۹۹۹م، حيث حدث انقلاب عسكري، إلا أن إقبال الجيش على الانقلاب في الأوضاع الحالية وقبول المجتمع الدولي له أمر يبدو مستحيلا. حاليا تدعم أمريكا وبريطانيا حكومة نواز شريف، وصرحتا أن البلدين لا تدعمان أي موقف غير جمهوري في باكستان.
وأما الانقلابات الحادثة في باكستان سابقا والتي لاقت قبولا دوليا، كان ذلك بسبب الأوضاع السياسية الدولية. حدث انقلاب أيوب خان إبان الحرب الباردة، انقلاب ضياء الحق حدث فيما كانت أفغانستان خاضعة لسيطرة الشيوعية والاحتلال السوفيتي، وكان انقلاب إيران أيضا قد حدث وتم أسر الدبلوماسيين الأمريكان في السفارة الأمريكة في طهران. وكانت الظروف الراهنة في تلك الفترة قد أجبرت الغرب على أن تدعم انقلاب ضياء الحق.
ويبدو من القرائن السياسية أن الجنرال برويز مشرف أصبح منعزلا بسبب انقلابه، فبعد زيارة الرئيس الأمريكي كلينتون إلى الهند، صرح سكارتير وزارة الخارجية الباكستانية الأسبق شمشاد أحمد خان، أنه حاول كثيرا وبأمر من برويز مشرف أن يوفر للأخير فرصة لقاء مع الرئيس الأمريكي. إلا أن كلينتون قبل العرض بصعوبة وتوقف في باكستان لزيارة مدتها أربع ساعات فقط مشترطا أن لا يتم التقاط أي صورة.
ففي الأوضاع الراهنة وإن يلعب الجيش دورا فلا يكون من أجل القيام بأي انقلاب، بل إما ينصح نواز شريف بالاستقالة وإما يجبر عمران خان وطاهر القادري مع المتظاهرين على الرحيل من إسلام آباد.
أفغانستان بين باكستان عسكرية وسياسية
سؤال يطرح نفسه قائلا: أيهما ينفع أفغانستان، باكستان يحكمها الساسة أم التي يحكمها العسكر؟ إن كانت للساسة الباكستانيين صلاحية تامة في صياغة سياستهم تجاه أفغانستان، كان لنا أن نجد إجابة صريحة لهذا السؤال، وأما الآن فإن الإجابة عنه مرهون بسؤال آخر يقول: من الذي يصنع السياسة الباكستانية تجاه أفغانستان؟
يظهر من تاريخ باكستان، أن سياسة هذا البلد تجاه أفغانستان، يصنعها جيش باكستان واستخباراتها. وهنا تدخل على الخط قضية “العمق الاستراتيجي”، والتي بسببها تتدخل هذه الجارة المسلمة في أمور أفغانستان بطريقة واضحة.
حتى الآن تملك الاستخبارات الباكستانية مقاليد صنع القرار في السياسة الخارجية، وأما في قضية كشمير، والهند وأفغانستان فترى صنع القرار بشأنها ميراثها الذي لا يشاركها فيه أحد.
ولكن فيما يتعلق بأفغانستان فإن الحكومات الباكستانية، منها العسكرية والسياسية لعبت دورا سيئا جدا. إن العسكري أيوب خان سمح للطائرة الأمريكية، “U-20” أن تستغل قاعدة “بدا بيره” للتوغل في الأراضي الأفغانية وللتجسس على السوفييت. وكانت عندها العلاقات الباكستانية الأفغانية سيئة جدا. بعدها أقبلت حكومة بوتو السياسية على تحريض البعض ضد حكومة داؤد في أفغانستان، وأرادت بذلك الحصول على عمق استراتيجي في البلد. أيام حكم ضياء الحق كانت سياسته تجاه أفغانستان حسنة نسبيا. ولكن أيام بي نظير بوتو ونصير الله بابر اتخذت باكستان خطوات سلبية كثيرة تجاه أفغانستان.
مع أن هذه القضية تحتاج دراسة عميقة وقوية، كي نحسم إن كانت الحكومات العسكرية جيدة مع أفغانستان أم السياسية منها، إلا أن الساسة الأفغان يفضلون لجارتهم أن تبقى سياسية، وليس عسكرية! ولكن يبدو أن الجيش في باكستان هو الذي يملك مقاليد القرار في العقود القادمة أيضا، وذلك إلى جانب تطلعات سياسية ترمي إلى الاتخاذ من النموذج التركي الهاما في تعزيز القوى السياسية في باكستان. النهاية
[1] Long March في باكستان، يُعبر به عن اعتصام شعبي سياسي كبير، يبدأ من أرجاء البلد ويتمركز في العاصمة.