تحرير: مركز الدراسات الاستراتیجية والإقلیمیة
ملاحظة: انقر هنا للحصول على ملف PDF لهذا التحليل.
___________________________________________________________________
ستقرؤون في هذه النشرة:
• مقدمة
• ما هو هروب الأدمغة وكيف يختلف معناه عن الهجرة؟
• دوافع هجرة الأدمغة من أفغانستان
• آثار هجرة العقول من أفغانستان
• خاتمة
___________________________________________________________________
مقدمة
إن هجرة الإنسان ونزوحه من بقعة إلى أخرى عملية ممتدة استغرقت تاريخ البشر بنحو يتيح لنا القول بأن تاريخ الإنسان هو تاريخ هجرته وغُربته. في هذا السياق نجد أن قضية هجرة العقول وارتحال الثروات الإنسانية في السنوات الأخيرة من الدول النامية باتجاه الدول الأكثر تقدما باتت تؤرق تلك المجتمعات النامية، كما أن هذا الإشكال يوّلد قضية متمايزة وأكثر أهمية من موضوع الهجرة بمعناها العام.
تواجه دول العالم الثالث بعد الحرب الباردة فرصا وتحديات كثيرة؛ من جانبٍ عليها أن تحمي حُكمها وسيادتها على أراضيها ومن جانبٍ آخر لا مناص لها من استخدام التقانة الإعلامية الحديثة في مكافحة صور التفرد بالسلطة كما عليها أن تسعى في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية. العنصر الهام في هذه العملية هو العنصر البشري حيث يلزم الاهتمام بالقوى البشرية المتخصصة والشابة عند تصميم استراتيجيات الأمن الوطني والتنمية السياسية والاقتصادية.
أفغانستان من جملة الدول النامية التي يهاجر شبابها المتخصصون والمُنتجون سنويا إلى مختلف دول العالم. اتخذت هذه الظاهرة منحنىً صعوديا في السنوات الأخيرة نظرا للحرب وتضعضع الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتلاشي الفرص. إحصائيات عام 2020م تفيد حضور نحو 2.6 مليون مهاجر أفغاني أواخر هذا العام في مختلف دول العالم، كما أن معظم المهاجرين الأفغان في شتى دول العالم هاجروا لأسباب اقتصادية. على سبيل المثال، إحصائية عام 2015م تفيد بأن عدد 2.2 مليون مهاجر من أصل 4.8 مليون مهاجر أفغاني في نهاية ذلك العام كانوا مهاجرين اقتصاديين.
ظاهرة هجرة العقول والمواطنين الأفغان قد أخذت تتصاعد عام 2021 بسبب سقوط الحكومة السابقة واستلام الإمارة الإسلامية لزمام الحكم. خلال الأسابيع الست الأولى من سقوط النظام الجمهوري هاجر 124000 شخص من أفغانستان ضمن عمليات الإخلاء وقد كان أغلبهم متخصصين وجامعيين، كما أعقب ذلك خروج عشرات الآلاف من المواطنين من أفغانستان بصورة تدريجية.
بالنظر إلى أهمية هذا الموضوع في مجال التنمية والاستقرار السياسي والاقتصادي بالبلد، تطرقنا في هذا المقال إلى أسباب ودوافع هجرة العقول من أفغانستان ونتائجها على المدى القصير والبعيد مع شرح مقتضب لمعنى الهجرة بشكل عام وهجرة الأدمغة بشكل خاص.
ما هو هروب الأدمغة وكيف يختلف معناه عن الهجرة؟
إن النزوح الجماعي من دولة إلى دولة أو مجموعة من الدول الأخرى له سببان أساسيان: 1- يهاجر الناس من دولة إلى أخرى بسبب الفقر والاستبداد والبطالة والتشتت الاجتماعي وتُسمى هذه العوامل بالعوامل الضاغطة. 2- كما أن الظروف المؤاتية بالدول الأخرى تلعب دورا بارزا في الهجرة وتُسمى بالعوامل الجاذبة وتشمل الإمكانيات الصحية والتعليم الراقي وتحسن موارد الدخل والسكن وعلو سقف الحريات السياسية والفضاءات الاجتماعية.
يُطلق اصطلاح هجرة الأدمغة على ظاهرة هجرة عدد كبير من الجامعيين والعلماء والمتخصصين من دولة أو مجتمع نحو دول أو مجتمعات أخرى، ويُقال إن سبب ذلك يرجع غالبا إلى فقدان العمل والأمان الوظيفي والصراعات السياسية والعسكرية وانعدام الضمانات الأمنية.
إن هروب الأدمغة يُعد أيضا نوعا من الهجرة حيث يُفضل المتخصصون والأفراد المهرة الذين يحتاج المجتمع إلى علومهم وتخصصاتهم ومهاراتهم الهجرةَ الدائمة إلى الدول الأخرى نظرا لأسباب عديدة. وفق هذا التعريف فإن هجرة القوى البشرية التي لا يحتاج المجتمع إلى مهاراتها وتخصصاتها لا تدخل ضمن هجرة الأدمغة وإنما تُسمى هجرة بالمعنى العام.
دوافع هجرة الأدمغة من أفغانستان
قضية هروب الأدمغة من أفغانستان تتشابه مع نفس الحالة في الدول النامية الأخرى وهي ليست بحادثة جديدة. إن أفغانستان تعاني من هذه الظاهرة منذ زمن بعيد. ما يهمنا في هذا الصدد هو معرفة العوامل والدوافع التي تُسبب هجرة العقول، وفيما يلي بيانها:
أ: العوامل السياسية والأمنية
• فقدان الأمن المجتمعي: الأمن المجتمعي أمر تعوزه أفغانستان. المنافسات السياسية والاقتصادية وتدخلات الحكومة في القطاع الخاص وعدم دعم العاملين به، وانعدام البرامج والمكافآت التقديرية للنخب والمبدعين والمخترعين مع وجود تهديدات حقيقية أمامهم، وكثرة العداوات الشخصية وغيرها من الأسباب عوامل تؤدي إلى هجرة العقول وعدم إحساس النخب بالأمن في أفغانستان.
• الاضطراب السياسي: الحكومات المتتابعة في أفغانستان لم تزل عُرضة للتحول والأفول. اعتلاء حكومةٍ ما على كرسي الحكم في أفغانستان يعني انهيار الأنظمة بشكل كامل. حين تفتقد المؤسسة الحكومية للثبات والاستقرار فمن الخطأ أن يُنتظر ذلك من المواطنين والمجتمع.
• الحواجز بين المواطنين والمسؤولين في السابق والحاضر: مع صدور العفو العام من قيادة الإمارة الإسلامية إلا أن خوف الشعب من الإيذاء وحتى الاغتيال المتوقع من بعض الفئات البعيدة عن أعلى الهرم ما زال قائما. عدد من المواطنين الذين عملوا في مختلف درجات السلك الأمني بالنظام السابق لم يقدروا على التأقلم مع الوضع الحالي ولذا اختاروا الهجرة من البلد. بالإضافة إلى ذلك نجد أن الاختلافات الفكرية والذوقية أيضا لعبت دورا في تسريع هذه الهجرة.
ب: ضعف الحوكمة
• فقدان نظام الجدارة: منح الكثير من الوظائف لغير المتخصصين، ومنح الوظائف على أساس العلاقات الحزبية والقومية والعِرقية، وعدم المواءمة بين العمل والتخصص الجامعي، والبيروقراطية الحكومية واحتكار الوظائف من الدوافع التي ساعدت على هجرة النخب من البلد طوال السنين الماضية.
• الفساد الإداري: إن الفساد الإداري المقنن قد استأصل بذور التعاون والأخوة والوطنية والوفاء بحق البلد، كما سرّع هذا الفساد ماكينة هجرة الأدمغة.
• ضعف العوامل الجاذبة وقوة العوامل الضاغطة: إن الحكومات في أفغانستان اتصفت دوما بشدة العوامل الدافعة وضعف العامل الجاذبة. حين تعجز الحكومات عن احتضان وتقبل المخالفين المتخصصين والناقدين الحاذقين فإن ذلك يساعد دون شك على هجرة العقول.
• فقدان الرؤية الوطنية: لم تتفق الحكومات في أفغانستان طيلة العقود الماضية على استراتيجية محددة تدور حول المصالح الوطنية، كما أن مصطلح “المصالح الوطنية” لم يُعرف بدقة في أفغانستان حتى الآن.
ج: العوامل الاقتصادية
• الفقر والبطالة: لا شك أن أبرز عامل يجذب معظم مثقفي البلد للخارج هو العامل الاقتصادي وقضية الفقر. حين يبلغ راتب المتخصص في الخارج عشرات أضعاف راتبه داخل أفغانستان فإن معظم المتخصصين سيفكرون في الهجرة إلى الدول الأخرى.
• انعدام الأمن الوظيفي: إن التنصيب والعزل المنفلت من الضوابط القواعد في إدارات الحكومة وخصوصا بعد استلام الإمارة الإسلامية لزمام الحكم أجهز على رغبة المتخصصين في العمل بهذه الإدارات.
• حضور عصابات المافيا بكثافة في الميدان السياسي والتجاري: النظام السياسي والحوكمة والتجارة والقطاع الخاص بأفغانستان غالبا ما طُوّق بأيادي عصابات المافيا واحتُكر لمصالحهم الخاصة.
• عدم التخطيط في مجال البنية التحتية: ما لم يُبدأ بالعمل على البنية التحتية وتدخلَ أفغانستان في مرحلة الإنتاج فيُستبعد حصول الشباب على الأمان الوظيفي.
د: العوامل الثقافية
• العولمة: يرى بعض العلماء أن مسيرة العولمة وانتشار العلوم والتجارة والتقانة والصناعة وتأثيراتها على إحداث شبكات العلاقات قد قربت البشر من بعضهم. لذا فإن هوية الشخص المعاصر لا تتشكل وفق معيار القومية أو الطبقة المجتمعية كما كان الحال في فترات الحكم التقليدي، وإنما حلت مكانها “الهوية العالمية” التي لا تختص بقومية أو منطقة أو بلد خاص. أصحاب هذه النظرية يرون أن الأدمغة في هذا العصر ليست ميراثا وطنيا يختص بالسكان المحليين، وإنما هي ميراث بشري للمواطنين “العالميين”.
• تعليم البنات: إن عدم الاهتمام بتعليم البنات فوق الصف السادس خلال العام الأخير لا يعني فقط إهمال تعليمهن في المرحلة المتوسطة والثانوية وإنما يُعد جرحا عميقا في معنويات شطر سكان البلد. لهذا تختار أسر كثيرة في أفغانستان طريق الهجرة حتى تهتم بتعليم وتربية أفرادها.
آثار هجرة العقول من أفغانستان
إذا أردنا أن نقيم هجرة الأدمغة بصورة جذرية فسنجد أن هذه الظاهرة تؤدي إلى افتقاد أفغانستان لأربعة أنواع ضرورية وأساسية من الثروات:
۱- الثروة البشرية؛ حيث إن معظم النخب التي هاجرت من البلد هم شباب جامعيون ومثقفون. هؤلاء الشباب هم ثروات بشرية خطت في سبيل التغرب والهجرة بقلوب دامية وأرواح كليلة حتى تصل إلى مستقبل آمن نسبيا. فقدان هذه الثروة البشرية الشابة تعرض ما تبقى من طاقات ومعنويات الشباب بأفغانستان للركود والخمود.
۲- الثروة المعنوية؛ لا شك أن أساتذة ميادين العلوم الإنسانية والمتخصصين بمجالات العلوم التجريبية يشكلون ثروات معنوية قيمة بأفغانستان. مع ارتفاع معدل الهجرة من أفغانستان خلال فترات الحكم السابقة إلا أن بعض الإحصائيات الحديثة تظهر أن عدد 229 أستاذا جامعيا من جامعات كابل وهرات وبلخ الكبرى قد تركوا البلد منذ استلام الإمارة الإسلامية لزمام الحكم بأفغانستان. عدد كبير من الأساتذة الذين تركوا التدريس بهذه الجامعات وهاجروا من البلد حاصلون على الماجستير والدكتوراه، كما بلغ عدد المستقيلين من مدرسي جامعة كابل 112 أستاذا.
۳- الثروة المادية؛ إن الشباب المثقفين الجامعيين الذين هاجروا ومازالوا يهاجرون من أفغانستان لأسباب عديدة قد ارتقوا في مدارج التعليم العالي – في درجات اللبكالوريوس والماجستير والدكتواره – باستثمارات دفعت ميزانياتها الحكومات الأفغانية بملايين الدولارات. إن نزوح وهروب هذه الأجيال من أفغانستان ليست خسارة معنوية وحسب وإنما هي خسارة مادية لا تُعوض.
4- تضخم اليأس؛ حين يرى الشعب هجرة وهروب نخبه ومثقفيه فإن الآمال في تحسن المستقبل ستتضاءل. عندما يلج الطالب الجامعي فصله الدراسي ويرى المنصة خالية من المدرس والمتخصص فلا شك أنه سيفقد الدوافع المحفزات التي تحثه على الاستمرار في التعلم والعمل وخدمة الوطن. وهكذا نلحظ أن هجرة التجار تخلق اليأس في قلوب المستثمرين ومثل هذا يُقال في حال العلماء والمتخصصين والسياسيين وغيرهم، وكل هذا يزيد من حالة اليأس العامة في البلد ويُبعد الهُوة بين الحكومة والشعب.
خاتمة
إن استمرار هجرة الأدمغة من البلد وخصوصا على النحو الذي جرى في السنة الأخيرة، وتلقص القوى البشرية الشابة والماهرة والمتخصصة بأفغانستان له تأثير سلبي مباشر على ثبات الأنظمة الداخلية ومستوى التعليم المدرسي والجامعي وسعة التجارة وسوق العمل وعشرات المجالات الأخرى على المدى القريب والمتوسط. أما على المدى البعيد فإن استمرار هذه الظاهرة كفيلة بإبعاد البلد عن عجلة المعاملات والعلاقات الدولية وتقصير أياديها عن الوصول إلى التطور التقني وأنظمة المعلومات وتطبيقاتها في الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية.
إن أفغانستان في مثل هذه الظروف التاريخية الحرجة تحتاج إلى قوى الشباب المتخصصين والعاملين لتحريك عجلة الأنشطة الاقتصادية والسياسية. إن الثغرات الملحوظة في مختلف الأصعدة الأكاديمية والاقتصادية والسياسية والتقنية باعثة على اليأس بشكل بالغ. لذا من الضروري العمل على إزالة تلك العوامل الضاغطة والمحركة على الهجرة حتى يوقف سيل الأدمغة المتدفقة نحو الخارج. في هذا الصدد ينبغي الاهتمام أولا بنظام الجدارة واحترام التخصص والالتزام والخبرة في كافة قطاعات العمل، كما يلزم العمل على إحداث فرص للوظائف وتقليل منسوب البطالة حتى يطمئن المتخصصون وذوو الخبرة على مستقبلهم داخل البلد. يُذكر في هذا السياق أيضا أن تدعيم الإحساس بالأمن الحقيقي والروحي والنفسي وتقوية روح العدالة والأخوة بين جميع أبناء الشعب له دور بارز في الحد من ظاهرة هجرة الأدمغة، ويجدر التذكير في هذا الصدد بأهمية احترام الحقوق والحريات الفردية داخل نطاق الشريعة الإسلامية مع تهيئة الأنظمة والأجواء لحصول النساء والبنات على حقوقهن في العمل والتعلم.
بما أن هجرة الأدمغة تتسبب في تقليص الموارد البشرية في أفغانستان بشكل عام وتؤثر بشكل سلبي على التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فإن هناك ضرورة ماسة لإحداث استراتيجية حكومية لاستعادة وجذب المتخصصين والمتعلمين وذوي الخبرة بنحو يُطمئن هذه الفئات ويُزيل خوفهم من مستقبل غامض بعد عودتهم إلى وطنهم.