في الثامن من شهر مي/2019 هجم فريق مسلح من تنظيم طالبان يضم أربعة مهاجمين وسيارة مفخخة، على مبنى مؤسسة كاونتر بارت في منطقة (شهر نو) بكابل. وبعد مصرع المهاجمين وانتهاء الاشتباكات التي دامت ستة ساعات سقط 9 ضحايا، منهم ستة عساكر كما جُرح 24 شخصا من المدنيين.
تم التنديد بالهجمة المذكورة التي معظم ضحاياها من المدنيين من قِبل الرئيس غني والرئيس التنفيذي عبدالله عبدالله، و السفير الأمريكي في أفغانستان جون باس، ومكتب هيئة الأمم المتحدة في أفغانستان، كما أصدر القصر الرئاسي الأفغاني بيانا وسم فيه الهجمة بالجناية وأكد أن على طالبان الاستجابة لرغبة الشعب الأفغاني في إحلال السلام، وإلا فستتصدى لهم القوات المسلحة والأمنية.
حصل الهجوم المذكور من قبل تنظيم طالبان في وقت تجري فيه المفاوضات في جلستها السادسة بالدوحة بين طالبان وزلمي خليلزاد المبعوث الأمريكي الخاص للسلام الأفغاني، كما انتهى منذ أيام قليلة المجلس الاستشاري الوطني في كابل الذي حضره أكثر من 3 آلاف مواطن أفغاني واستمر لمدة خمسة أيام للتشاور حول قضية المصالحة مع طالبان، واختتم المجلس الاستشاري بوعد من الرئيس غني بإطلاق سراح 175 سجين من تنظيم طالبان كعلامة على حسن نوايا الحكومة كما طالب بوقف إطلاق النار في شهر رمضان المبارك.
لماذا الهجوم على كاونتر بارت
(كاونتر بارت) مؤسسة أجنبية يتم تمويلها من إدارة الدعم الأمريكي USAID. بدأ نشاط المؤسسة المذكورة في أفغانستان منذ عام 2005م في مجالات رفع كفاءة النساء وتدريب الصحفيين وتنمية المجتمع المدني في كل ولايات أفغانستان البالغ عددها 34 ولاية، ويعمل في المكتب الرئيسي للمؤسسة نحو 299 موظف. أصدر تنظيم طالبان بيانا تبنى فيه الهجمة وصرح أن سببها هو نشاط المؤسسة الاستعماري، وكما هو معلوم فإن إستراتيجية طالبان في مدة 19 سنة الماضية تضمنت في رأس أولوياتها الهجوم على المؤسسات الأجنبية ولذا طالب التنظيم المواطنين الأفغان بالابتعاد عن هذه المؤسسات. في أول عام 2019م هجم التنظيم كذلك على مخيم (Green Village) العسكري الواقع في القطاع الأمني رقم 9 بالعاصمة كابل.
رغم أن السفير الأمريكي في أفغانستان جون باس صرح بأن مؤسسة كاونتر بارت مؤسسة غير عسكرية وعدّ الهجوم عنفاً غير مبرر، إلا أن تنظيم طالبان لا يفرّق كثيرا بين استهداف العسكريين الأجانب والمدنيين الأجانب، ومن ذلك إيقاف التنظيم لأنشطة الصليب الأحمر الدولي بعد وصفه لأنشطتها بالمثيرة للشك.
الحرب لأجل موقف أقوى في مفاوضات السلام
منذ بداية السنة وإعلان الحكومة عن الهجمات التي سمتها بـ (هجمات خالد) ومن ثم إعلان طالبان عن هجمات (الفتح) كردة فعل، أبدى الخبراء قلقهم حيال تدهور الوضع الأمني في البلد خلال العام الجاري. أما المواطنون فقد عقدوا الآمال بقرب السلام رغم إعلان الطرفين عن الحرب، وكان مما أنعش هذه الآمال المفاوضات المباشرة بين طالبان والولايات المتحدة الأمريكية في قطر، والمحادثات بين طالبان ومندوبي الأحزاب السياسية والمجتمعية الأفغانية في موسكو، وأخيرا انعقاد الجلسة الاستشارية العليا للسلام في كابل والتي اختُتمت فعالياتها قبل أيام يسيرة. إلا أن تصعيد الهجمات على طالبان من قبل الحكومة، وهجمات التنظيم على الأهداف المدنية – والتي كان من آخرها الهجوم المسلح على مؤسسة كاونتر بارت في كابل – يدلان على أن المسافة الموصلة إلى السلام في البلد مازالت طويلة، ومما يُؤسف له أن كلا من الحكومة والتنظيم يسعيان إلى فرض مخططاتهما عبر الحرب العسكرية لا عبر التفاوض السلمي، في حين أن التجارب تدل على العكس، كما ورد في البيان الصادر من المجلس الاستشاري الأخير في كابل ما نصه: ( لا فائز في الحرب، ولا خاسر في الصلح ). إن السلام لا يتأتّى بالعنف وإنما تستقر دعائمه بالتضحية والتفاهم وتقبّل الطرف الآخر.الجلسة الاستشارية العليا للسلام والتي انتهت قبل أسبوع لم تعضد عملية مفاوضات السلام الجارية، كما أنها خلقت تحديات جديدة في طريق السلام. ربما فكر القائمون على الجلسة باستمرار الحكومة الحالية وجعلوا لهذا الهدف الأولوية على المصالحة السريعة، وإلا فليس من المفترض أن تُثمر جلسة كبرى على هذا المستوى نتائج سلبية تضر بمفاوضات السلام.
للأسف فإن البنود رقم 11 و 14 من البيان الاختتامي للجلسة تقوي هذه الشكوك المثارة. حيث تمت الإشارة في البند رقم 11 إلى الدخول في المفاوضات عبر عنوان واحد يشمل جميع أفغانستان وما ضُمّن في الفقرة من الإتاحة للحكومة باختيار فريق التفاوض. هذه المادة لن تُثمر إلا انغلاق طرق التفاوض التي عمل على تحسينها مندوبو الأحزاب السياسية والشخصيات السياسية البارزة كالرئيس السابق حامد كرزاي، والتي وصلت إلى نتائج نسبية طيبة. أما المادة رقم 14 فقد تم التأكيد فيها على أهمية أن تكون الحكومة الأفغانية المحور الأساسي لجميع المساعي والمبادرات التي تهدف لإحلال السلام. وهذه المادة لا تدل إلا على أن تنظيم طالبان يجب عليه الخضوع للشروط أحادية الجانب التي تضعها الحكومة الأفغانية. إذا كان من الممكن لتنظيم طالبان قبول مركزية الحكومة في المفاوضات، فلمَ انخرط التنظيم في كل هذه الحروب؟ إذا قبل التنظيم بالمركزية المذكورة فلعل موضوع السلام وإيقاف الحرب كان الآن أمرا مفروغا منه منذ سنوات عديدة.للأسف فإن من يتحمل نتائج هذه الإخفاقات الناتجة من الجلسة التشاورية التي رعتها الحكومة هم المواطنون الذين ليس أمامهم إلا تقديم المزيد من الضحايا في سبيل الوصول إلى السلام. في كل مرة وصلت فيه قضية السلام إلى حجرة عثرة، حاول الطرفان (الحكومة وتنظيم طالبان) إلى ترسيخ موقفهم بالهجمات العسكرية، وما الهجمة الأخيرة على مؤسسة كاونتر بارت بمستثناة عن هذا السياق.
ضرورة تشكيل طرف وسيط
من أبجديات سبيل إحلال السلام في أفغانسان إيجاد طرف محايد ثالث يقف موقفا وسيطا بين الطرفين المتخاصمين ويُجري معهما المحادثات بشكل مباشر، وعلى هذا الطرف الوسيط أن يكون قادرا على الاستمرار في المفاوضات مع الطرفين إلى الوصول معهما إلى حلول نهائية للأزمات. تم تأسيس هذه الجهة المحايدة – إلى حد ما – قبل وبعد مؤتمر موسكو للسلام، وإذا لم يتم تبديل تلك التشكيلة إلى القائمة الطويلة والغير متناغمة التي ضمت أسماء 250 شخصا، لَكسب وفد مؤتمر موسكو قوة وثباتا أكبر في عملية السلام.
ومازال في الوقت بقية أمام الحكومة وعليها أن تُسارع بالسماح لمبادرات السلام بالعمل مع حفظ حريتها واستقلاليتها، قبل أن يتم تصعيد هجمات تنظيم طالبان على جميع المنضوين تحت مظلة الحكومة وكذلك هجمات الحكومة ضد التنظيم وسقوط العديد من الضحايا الأفغان في الاعتراك الثنائي المُشار إليه، وإذا لم تُقدم الحكومة على ذلك فإنها ستبوء بحِمل استمرار الحرب في البلد.
مع تمنياتنا بانتهاء الحرب، واستقرار السلام العاجل في أفغانستان.