هجوم 7 من يناير، نفّذه ثلاثة شبان مسلحون على مكتب صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة وأسفر عن مقتل 12 شخصا. وكان الاثنان من القتلى عناصر الشرطة، وعشرة آخرون من عمال هذه الصحيفة. وبين القتلى لقي من رسم كاريكاتورا لرسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم مصرعه أيضا. وفي حادث آخر أسفرت عملية خطف في محل تجاري يهودي عن مقتل عدد آخر.
كانت لهذا الحادث ردود أفعال واسعة على المستوى العالمي، وكان غير مسبوق منذ 40 سنة الماضية. وهناك من قارن هذه الحادثة بأحداث 11 سبتمبر 2001م، في الولايات المتحدة الأمريكية. وتشابهَ شعار “نحن شارلي”، مع شعار “من ليس معنا، فهو ضدنا”، الذي رفعه جورج بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر.
من دافع إلى آثار
لقد حدث في الغرب حادث ذو وقع شديد، وأثار ردود عاطفية ومليئة بالغضب. واستهدف الهجوم دولة لها يد عسكرية في دول كثيرة من أفريقا إلى آسيا بحجة المكافحة مع الإرهاب.
وكل المناقشات التي نشرت عبر وسائل الإعلام الغربي بشأن هذه القضية، تجاهلت الدوافع الموجودة خلف هذه الخطوة الإرهابية، بل انصب الاهتمام على الواقع نفسه، وعلى قتل البشر والهجوم على “حق حرية التعبير”، الذي هو فوق كل عقيدة. وهكذا يتم نقد ردة الفعل ولا يتحدث أحد عن أصل الفعل الذي سبب ردة الفعل. وقيل إن هذا الهجوم غير مبرر أصلا. وإن المسلمين المتطرفين هاجموا العالم الغربي ولا ينبغي أبدا لوم القائمين بصحيفة “شارلي إيبدو”، لما قاموا به من استفزاز المسلمين. وإن كان هناك دافع فهو في متون الدين الإسلامي وليس في عمل القائمين بأمر الصحيفة، ولا في السياسة الغربية تجاه المسلمين.
حرية التعبير أقدس من الدين
يرى مؤيدو حرية التعبير على النمط الغربي بأنه ليس أي دين أو عقيدة أكثر تقدسا بما يصونه من النقد أو حتى الإهانة، وليست هناك أي ضرورة للتساؤل في هذا الشأن. ولكن هل النقد يساوي الإهانة؟ فإن الإعلام الغربي يقوم سنويا بتوجيه النقد الكثير ضد الإسلام، ويجيب المسلمون عنه؟ ولكن من الذي يعتبر ما كان يُنشر في صحيفة شارلي إيبدو من شتم وإهانة نقدا؟ هل تعني حرية التعبير فحشا وشتما؟
واللافت للنظر أن البعض يدعي بأن هذه الصحيفة لم تخص محمدا –صلى الله عليه وسلم- بالإهانة بل وأهانت عيسي نبي المسيحيين، وموسى نبي اليهود؛ فلمَ يستاء المسلمون فقط من إهانة رسولهم؟ إن الذين يحتجون بمثل هذه الحُجَج، ألا يدركون المكانة الحقيقية لموسى وعيسي عليهما السلام عند المسلمين؟ ألا يدركون أن المسلمين يحترمون موسى وعيسى أكثر من المسيحين واليهود، وأن إهانتهما هي إهانة الإسلام في نظر المسلمين؟
والأهم أن من يدعي: “إني لا أعتقد أن يكون تقدس لأي دين أو مذهب، أو أن يكونا أولى من حرية التعبير”، أليس ذلك إعطاء قداسة لحرية التعبير؟ عندما توضع حرية التعبير في مكان الدين، وتكون لها قداسة، فإنها تكون حرية التعبير وحدها فوق النقد. وعلى أساس هذا الرأي تم تنديد هذا الهجوم الأخير من دون مراجعة أسبابه والدوافع التي وقفت خلفه.
الأصولية الإسلامية والعنف
لقد نالت القوى الغربية الحاكمة على فرصة، لاستغلال الظروف الناتجة من الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو”، أن تسخّر قدراتها في نقد الإسلام والتعاليم الإسلامية. ولكن هل يمكن فصل ما حدث في باريس في 7 من يناير عمّا يجري من قتل المسلمين في كلٍ من آسيا وإفريقيا؟
أليست هناك أي علاقة بين ما جرى في باريس وبين ما يجري في العراق، وأفغانستان، وليبيا، ومصر، وفلسطين، واليمن من قتل المسلمين؟
ألم يكن الإسلام وهذه التعاليم الإسلامية موجودة طيلة القرون الطويلة في العالم؟ وهل تعلم المسلمون هذه التعاليم للتو من القاعدة وطالبان وداعش؟! لماذا لم تخرج مثل هذه المجموعات من بين المسلمين في الماضي؟
لماذا أثناء الجهاد الأفغاني ضد السوفيت لم يأت كل هؤلاء الشباب من الغرب إلى أفغانستان، واليوم يتوجهون نحو سوريا، والعراق واليمن ليقاتلوا في صفوف القاعدة وداعش؟ ما الذي أوجد هذا الميلان؟
إزدواجية المعايير
لا نرمي هنا بأي صورة إلى الدفاع عن الإرهاب، ولكن الغرب تعود على أن يقلل من شأن أي عمل عنف تقوم به مجموعات مسلحة غير إسلامية، ولا يعمم الأمر على بقية أتباع ديانة قام بعض أفرادها بذلك العمل، وهو عكس ما يقوم به الغرب مع المسلمين تماما.
فلا يربط في الغرب أحد أعمال النازيين الجدد وأتباعهم في دول أوروبّا إلى المسيحية، مع أنهم يرفعون الصليب شعارا لهم، وهكذا ما يقوم به كيان إسرائيل من قتل وتشريد للشعب الفلسطيني لا يُعتبر في الغرب موقفا يهوديا لجميع اليهود، ولكن فور ما يقوم مسلم ما بأي عمل عنف، فإن الغرب يجمع أمره على أن العمل من صنيع الإسلام والمسلمين، ويتوقع الغرب في مثل هذه الحال من زعماء المسلمين في المجتمعات الغربية وفي العالم الإسلامي كله أن يعتذورا. فلم لا يتوقع أحد ذلك من غير المسلمين؟
يعيش في فرسنا ستة ملايين مسلم، معظمهم جاءوا من مستعمرات فرنسية، ويُعمل معهم كل أنواع العنصرية. وعلى سبيل المثال إن فرنسا تعتبر حرية التعبير حق لجميع أفراد المجتمع، وفي نفس هذه الدولة لا يوجد اعتراف بحق المرأة المسلمة في أن تغطي شعرها، وذلك لأن الحجاب هوية دينية وليست حقا!
ماذا بعد الهجوم على شارلي إيبدو
منذ سنوات عدة توجه آلاف من الشباب المسلم من دول أوروبّية إلى جبهات الحرب في سوريا، والعراق واليمن. وقد أثارت هذه القضية قلقا في الغرب بحيث تخاف هذه الدول الأوربّية من رجوع هؤلاء الشباب ومن أن يسببوا اضطرابات أمنية هناك. والآن يمكن لهذا الحادث الأخير أن يكون ذريعة لوضع تحريمات أوسع على الأقليات المسلمة في جميع الدول الأوروبّية وخاصة في فرنسا. ومنذ الآن بدات دراسة حول وضع تحريم على تنقل الأفراد بين الدول الأعضاء في “شنغن”.
ففي حال استمرار الإهانة مع المقدسات الإسلامية بذريعة حرية التعبير، لا يكون من شأن ذلك إلا أن يحرّض التطرف المذهبي بين المسلمين، وأن يسبب ردود فعل عنيفة أكثر. النهاية