بعد الحرب العالمية الأولى، أثناء الحرب الباردة (1945-1991م) وبعد ذلك، كان الشرق الأوسط يعج بأزمات كبيرة، ولكن المنطقة في الآونة الأخيرة شاهدت تغييرات كثيرة. من أوضح أمثلة لهذه الأزمات، الحرب الأهلية الطويلة الدامية في سوريا، وإسقاط حكومة محمد مرسي في مصر، إلى جانب أحداث العنف في العراق، وشلّال الدماء في غزّة.
لقد أثّرت هذه التغييرات الأخيرة، وعلى رأسها، الثورات التي قامت باسم الربيع العربي، تأثيرا كبيرا على المنطقة، وهناك توقعات بشأن تغييرات أخرى. هذه الورقة التحليلية تناقش هذا الموضع.
خلفية الحرب الدائرة في الشرق الأوسط
بعد الثورة الإسلامية في إيران (1979م) وفي مرحلة الحرب الباردة العالمية، بدأت في هذه المنطقة شيئا فشيئا، حرب طائفية إقليمية بين قوتين إقليميتين “السعودية وإيران”. هذه الحرب الطائفية الباردة بدأت بشكل نيابي، وإثر الحرب الطويلة بين إيران والعراق (1980-1988م) وقسّمت المنطقة إلى قطب شيعي وأخر سني، ومن أمثلتها في الأوضاع الراهنة الحرب الأهلية في سوريا والانتفاضة السنية الجديدة في العراق.
مع بدء هذه الحرب الباردة بين السعودية وإيران، كانت الأخيرة قد جرّبت مواجهة عنيفة مع العراق، وبعد ذلك انضمت السعودية إلى مصر بقيادة حسني مبارك، واختارت إيران مناصرة حزب الله في لبنان، وحافظ الأسد في سوريا.
السعودية كونها حليفة لأمريكا في مرحلة الحرب الباردة، تعلمت من تجاربها مع أمريكا، وحاولت أن تقدم نظريتها الخاصة ضد إيران، على أساس “مبدأ ترومان[1] ” وأن تجعل إيران خاضعة لها. للحصول على هذا الهدف اختارت السعودية مناصرة حليفها الاستراتيجي باكستان ومنها مناصرة مجموعات من المجاهدين الأفغان كان فوزها رهن مساعدات سعودية.
ولذلك أثرت تلك الحرب الباردة على الحرب الأهلية في أفغانستان، وبعدها ظهرت حركة طالبان في الساحة السياسية الأفغانية، وهي حركة خالفت إيران منذ البداية، ونتيجة لعداء الحركة مع إيران اعترفت السعودية، بحكم طالبان. وبهذه الطريقة انتقلت الحرب الباردة إلى الداخل الأفغاني وأثّرت كثيرا على مجرى الأمور والحالات.
سوريا والعراق… من الحرب الباردة إلى الدامية!
عندما بدأت الثورات العربية والمعروفة بالربيع العربي من تونس، ظهرت آمال الحرية لدى الشعوب من جانب وتحديات كثيرة للحكومات المستبدة من جانب آخر، وقد أسقطت هذه الثورات بالفعل حكومة القذافي في ليبيا، وحكومة حسني مبارك في مصر. وفي نفس الوقت قامت ثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد الوراثي، وهي ثورة مستمرة منذ 2011م، ولكلتي الدولتين “إيران والسعودية” تدخل كبير في شأنها.
إلى جانب ذلك وبعد الانسحاب الأمريكي من العراق أصبحت الأوضاع أكثر سوءا من قبل، وقد أقلق ظهور جهة باسم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا، وإعلانها للخلافة الإسلامية في العالم الإسلامي، دول المنطقة كثيرا. هذه المجموعة المسلحة من أهل السنة، تقاتل الآن الحكومة العراقية بزعامة نوري المالكي بكل شدة، وهي حكومة أقصت أهل السنة من الساحة السياسية، وهناك تهم على السعودية وقطر بدعم هذه المجموعة المسلحة.
هذا وقد ظهرت في الآونة الأخيرة ميول الانفصال لدى كردستان العراقية، وهناك مخاوف كثيرة يحس بها الجانب الإيران تجاه تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” وهناك شائعات تقول إن إيران وبمساعدة الحكومة العراقية، تتدخل مباشرة ولكن السعودية قد هددت إيران من مغبة التدخل في الشأن العراقي، وإلا ستكون النتيجة عليها.
قائد انقلاب مصر صديق جديد للملك عبدالله
لقد وجه الملك عبدالله مع أصدقائه (من زعماء الكويت والإمارات) ضربة قوية على الأصدقاء القدماء وعلى قوة السعودية المرنة في العالم الإسلامي “الحركات الإسلامية”. بعد مضي فترة يسيرة من حكم رئيس مصر المنتخب محمد مرسي، قام السيسي بانقلاب عسكري عليه، وتعامل بشراسة بالغة مع جماعة الإخوان المسلمين.
بعد حدوث الانقلاب في مصر، سارع ملك السعودية للاعتراف الرسمي بحكومة الانقلاب، وأخيرا سافر لأول مرة بعد خلع حسني مبارك من الرئاسة. وهذه كانت أول زيارة لمصر بعد الانقلاب قام بها زعيم دولة. وقد قدم الفريق السيسي شكرا خاصا للملك عبدالله لما قدمه من دعم له.
وكان الملك عبدالله أثناء التخطيط للانقلاب قد وعد السيسي بمساعدة مالية تبلغ بضع مليارات من الدولار وبأنه يدعو لمؤتمر إقليمي لدعم مصر، وأن التزامات الدعم في هذا المؤتمر ستصل 20 مليار دولار. بالنظر إلى العلاقات القوية بين الحكومة الجديدة في مصر وبين السعودية، وبالنظر إلى الوعود والالتزامات يمكن لنا أن نعرف وجهة الدولتين.
بعد اندلاع الثورة في مصر، وسقوط حكومة حسني مبارك، تنفست إيران صعداء، وهنأ مرسي بالفوز. مع أن محمد مرسي حاول أن يحافظ على توازن بين طهران ورياض، ولكن السعودية اعتبرت أن مصر خلفها أنور السادات وحسني مبارك مضت في رحاب الأعداء، فلم تحاول أن تنجح بصداقتها، وإلى الآن فإن ما يجري في مصر بإماء الأجانب تضر بشعبها.
السعودية وتركيا… منافسة على زعامة العالم السني
إن انتخاب داؤد أوغلو وزيرا للخارجية التركية، أحدث تغييرا في الدبلوماسية التركية الحديثة. إنه كأستاذ جامعي قبل سنوات ألف كتابا بعوان “العمق الاستراتيجي”، وبيّن فيه للخبراء الأتراك، أن تركيا ينبغي أن تسعى لاستعادة عمقها الاستراتيجي. وهو يعني بذلك الموقع الاستراتيجي التركي، والعمق التاريخي الموروث من الخلافة العثمانية.
بعد أن أصبح السيد أوغلو في 2004م، وزيرا للخارجية التركية، وبعد أن سد الاتحاد الأوروبّي باب الانضمام إليه على وجه تركيا، بشروط إضافي آخر، سارت تركيا على هذه النظرية. وبناءً على هذه النظرية قدم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يد المساعدة لأصدقاء السعودية القدماء “الحركات الإسلامية” بعد أن سحبت السعودية يدها من دعم هذه الحركات.
إن تركيا تريد ديمقراطية للشرق الأوسط، وهو أمر يعتبره زعماء السعودية تهديدا لعروشهم وتيجانهم. ولقد عقدت تركيا آمالا كثيرة على الربيع العربي، ولكن السعودية وعلى أساس مصالحها تدخلت في اليمن، والبحرين، ومصر.
إن قوة الحرب الباردة بين السعودية وتركيا، تظهر جليا فيما قال أردوغان للشعب التركي، بخصوص الملك عبدالله والسعودية، وذلك حين أن قام السيسي بانقلاب عسكري في مصر.
النتيجة:
بما أن الحرب الباردة في الشرق الأوسط وبين السعودية وإيران حرب شيعية سنية، فإن السعودية لا تريد أن يزداد التأثير الشيعي في المنطقة، ولا أن تزداد قوة إيران المرنة، ومن جانبها تخالف إيران السعودية وتسعى لبسط نفوذها في المنطقة.
وفي صعيد آخر، هناك منافسة وحرب باردة أخرى في الشرق الأوسط، بين السعودية وتركيا، وكل يحاول من منظاره أن يفوز بمستوى “زعامة” المسلمين. إن السعودية بهذه المنافسة تهدف إلى مصالح دينية، وتخوضها تركيا لازدياد قوتها المرنة ورقيها الاقتصادي، وإبراز نفسها لزعامة مثالية للعالم الإسلامي.
ومن جانب آخر، فإن العلاقات التركية الإيرانية في المنطقة متدهورة منذ فترة طويلة، وإلى حد ما هناك حرب باردة بينهما. وإن الأحداث التي وقعت إثر الربيع العربي، سخّنت المنافسة في المنطقة وهي لعبة تزداد خيوطها صعوبة كل يوم. النهاية
[1] Truman Doctrine: هو مبدأ قدّمه الرئيس الأمريكي، هاري ترومان عام 1947، وينص على دفع العدان عن أمريكا بأي طريقة ممكنة.